نصوص أدبية
سعاد الراعي: بورغاس.. حين تُختبر الكرامة

لم تكن الزيارة إلى مدينة بورغاس البلغارية مجرد رحلة عابرة، بل كانت انعطافة خفية في درب الغربة. كانت ممتنّة بصدقٍ لزميلتها البلغارية ميرا حين لبّت دعوتها، تلك الزميلة التي جمعتها بها علاقة احترام دافئ منذ الأيام الأولى في المجمع الطلابي بالأكاديمية. كانت صداقتهما أشبه بمرآة صافية، تعكس ودًّا وحنينًا صامتًا بين غريبتين عن أوطان مختلفة، تجمعهما اللغة، وتفرّقهما الذاكرة.
لطالما تبادلتا الزيارات البسيطة وأطباقًا من مطبخَيهما الشعبي، كأنّهما تداويان غربتهما بالمذاق والرائحة، وتتعلّمان من بعضهما بعضًا مفردات الاندماج. كانت زميلتها تتحدث دوماً عن بورغاس ـ تلك المدينة الساحلية التي يحتضنها البحر الأسود وتفتن زائريها بمينائها العريق وشواطئها الممتدة، وتتناثر في شوارعها مبانٍ قديمة وحديثة كأنها تحاور الزمن بلغتين.
وحين لاحظت الزميلة ذلك البريق المشتعل في عينيها، ذاك البريق الذي يُولد حين يتقاطع الحنين مع الحلم، أصرّت أن تستضيفها مع صغيرها خلال عطلة نهاية الأسبوع. لبّت الدعوة، وفي قلبها امتنان حقيقي لتلك البادرة.
بلغت سنتها الثانية في اكاديمية صوفيا، ترافقها مسؤولية جسيمة في هيئة طفل لا يزال في سنّه الطري، بالكاد بلغ الثالثة. كانت تقاوم مشقة الغربة وضيق ذات اليد بمنحة دراسية بالكاد تسد رمق الحاجة، ومع ذلك ضلت تحاول أن تبقى شامخة، مرفوعة الرأس، تكتب كل يوم فصلاً جديدًا من كرامتها.
لكن في زحمة الجمال الذي أحاط بها في بورغاس، وبين دفء الاستقبال وكرم الضيافة، شعرت فجأة بأنها أصغر من اللحظة، كأنها لا تملك ما يوازي هذا الكرم لتردّه. راودها شعورٌ ثقيل، خانق، بأنها عاجزة عن أن تكون بالمثل، بأنها لا تستطيع دعوة زميلتها إلى ما يوازيه من مكان أو ظرف، فهي غريبة، مقيمة على حافة الضرورة، وحيدة إلا من طفلها، ومالها الشحيح، كظلّ في آخر النهار.
تضاربت المشاعر في أعماقها: بين امتنان نقيّ وبهجة خجولة، وبين إحساس داخلي ينهشها بالصمت... شعور بأن الكرم، حين لا يمكن رده، يتحوّل أحيانًا إلى عبءٍ ثقيل مرهق. كأنها في مأزق لا يُقال، وموقف لا يُفهم إلا بقلبٍ يعرف معنى العجز المؤدّب.
رغم هدوء الليل ودفء الغرفة وطمأنينة الصغير المستسلم لنوم عميق كأنما يحلم بشيء من أمانٍ مؤقت، كانت عيناها مفتوحتين على وسعهما، تسهران على صمتٍ ثقيل لا يقطعه سوى صوت أنفاسه الهادئة. كانت ممتنّة، نعم، شكرت زميلتها مرارًا على حسن الضيافة ودفء الاستقبال، لكن قلبها كان منشغلاً برغبةٍ ملحّة في الرحيل، وكأن البقاء ـ رغم الجمال ـ بات أثقل من طاقتها.
اقتربت من ميرا، تلك البلغارية التي منحتها سخاء ما لا يُقابل، وقالت بصوت خافت يحترم الليل:
ــ سأغادر حالما يستفيق صغيري… أنوي العودة إلى صوفيا اليوم.
رفعت ميرا حاجبيها بدهشة طفيفة، وقد أدركت أن لا قطار يغادر المدينة في مثل هذا الوقت:
ــ ولكن… أقرب الرحلات صباح الغد!
ابتسمت ابتسامة شكرٍ خجولة وأجابت:
ــ لا بأس، سننتظر في المحطة حتى بزوغ الصبح.
قالت ميرا، بصوت ممتلئ بالقلق الصادق:
ــ ولكن المحطة باردة في الليل، لا تصلح لطفل صغير!
أجابت بنفس ذلك الهدوء الذي يخفي اضطرابًا داخليًا لا يُقال:
ــ لا عليكِ… فقط أرجوكِ، إن أمكن، أن توصليني إلى هناك، وسأتدبر أمري.
أدركت ميرا أن لا جدوى من الإصرار، فرافقتها إلى المحطة، وهناك تركتها ومضت، تلوّح لها بنظرة مشوبة بالعجز.
كان الوقت يقترب من العاشرة مساءً، حين قطعت تذكرة العودة، وهي تمسك بكفّ صغيرها الدافئ، تستمد منه شيئًا من الطمأنينة في هذا الليل الغريب. تلفّتت حولها، تبحث بعيني من تعوّدت أن تتدبر أمرها بنفسها، رغم قلة الحيلة وضيق الإمكانيات. لم يكن في نيتها الانتظار على مقعد بارد يلسع عظام صغيرها قبل أن يلسعها، فقررت أن تمضي في درب آخر أكثر رحمة.
هناك، على مقربة من المحطة، لمحت لافتة مضيئة لفندق صغير. توقفت لحظة، تأملت اللافتة كما لو كانت تشير إليها وحدها. لم يكن القرار سهلاً؛ كانت المنحة بالكاد تكفي، وكانت كل ليلة مضافة في مكانٍ مأجورٍ تعني تنازلاً عن شيء آخر لاحقاً. لكنها، في تلك اللحظة، اختارت كرامتها وصغيرها، اختارت ألا تجعله يقاسي بردًا ولا قلقًا.
استجمعت قواها، رفعت رأسها كمن يدخل معركة داخلية بشجاعة هادئة، وعزمت أن تدلف باب ذلك الفندق الصغير، لتحجز غرفة ـ ليلة واحدة فقط ـ تكفيها لعبور هذا الليل الثقيل بسلام.
كانت تعرف أن الغربة ليست في المكان وحده، بل في أن تضطر، كل مرة، لاختيار الأمان على حساب الراحة، والكرامة على حساب الراحة النفسية. لكنها ـ رغم كل شيء ـ سارت بخطى واثقة، ووجهها يفيض بتصميم خافت، ونفسها تهمس لها: "كل هذا سيمضي... المهم ان لا أنكسر."
كانت تعلم أن زميلتها لا تنتظر مقابلًا، ولكنها ـ وهي ابنة الكبرياء ـ كانت تشعر بأن الكرم الذي لا يُردّ، يبقى دينًا معلقًا في أعماق النفس، يطرق وجدانها كلما ابتسمت ابتسامة شكرٍ صامتة، وكلما عاد طفلها إلى حضنها فرحًا بما رآه.
كان الرواق المؤدي إلى غرفتها يضجّ بالحياة الصاخبة من نوعٍ لا يشبه الحياة التي تعرفها. ضحكات عالية، أصوات متشابكة بلكنة البحر، ورائحة الشراب النافذة كأنها بخار فاسد يتصاعد من قاع الأرصفة. رجال بأجساد متعبة ووجوه سمراء، تحملهم أمواج البحر إلى هذا الفندق المتواضع كما تحمل النوارس تعبها إلى اليابسة.
رغم ما سمعته ورأته، لم تتراجع. لم تكن تملك رفاهية الاختيار، وحين أخبرها موظف الاستقبال أن سعر الغرفة يناسب ما في حوزتها، دفعت فورًا دون تردد، كما لو أنها تشتري بقية كرامتها من ضجيج العالم. حين أغلقت باب الغرفة خلفها، شعرت وكأنها أغلقت على نفسها زمنًا آخر، زمنًا تخلّت فيه عن الخوف وارتدت ثوب السكينة.
تنفّست بعمق، وهي تهيّئ السرير الوحيد في الغرفة، فردت الغطاء كما لو أنها تنسج لطفلها عالماً من الطمأنينة فوق سريرٍ عابر. وضعته برفقٍ بين ذراعي الليل، ثم استلقت إلى جانبه، تضمّه إليها كأنها تخلق من حضنها جدارًا ضد كل شرور العالم. أطفأت النور، وأغلقت عينيها، علّ النوم ينقذها من ارتباك اللحظة.
لكن الليل، في هذا المكان، لم يكن هادئًا. الأصوات تصاعدت، أكثر حدّة، أكثر عنفًا. طرقٌ على الجدران، صياح، شتائم، صراع مخمور. نهض صغيرها من نومه مذعورًا، باكيًا، وكانت دموعه تنزلق على خدّه كما تنزلق هي في داخلها نحو هاوية القلق.
جلست تمسك به، تغنّي له بصوتٍ خفيض مرتجف، كأنها تحاول أن تطمس بهذا اللحن البسيط جلبة الخارج كله. لكن الطرق تزايد، ارتفع الصوت خلف الجدار، وكأن جدران الغرفة بدأت تتنفس توترها. نهضت بتوجّس، مشَت نحو الباب بخطى محسوبة، تأكدت من أنه مغلق بإحكام. وضعت يدها عليه برفقٍ، كأنها تحرس عالمًا هشًا خلفه.
عادت إلى السرير، وضعت رأس طفلها على صدرها، وبدأت تتمتم له بكلمات لا تعني سوى شيء واحد: "أنا هنا… لن يحدث شيء، ما دمت أتنفس."
وفي داخلها كانت العاصفة: لو حاول أحدهم دفع الباب، ماذا ستفعل؟ لا سلاح، لا معين، لا صوت ينادي… وحدها هي. تمنّت في تلك اللحظة لو أنها بقيت في برد المحطة، فهناك، على قسوتها، لم تكن الخشية من بشرٍ أثقل من صقيع المكان.
ثم، وبعد ساعة ثقيلة ومفزعة، خفتت الاصوات. كما لو أن أحدًا أطفأ الليل بيده. خيّم الهدوء على الرواق، توقف العراك الا من أصوات بدت كأنها عادية وكأن كل ما حولها كان اختبارًا مدبّرًا لعزيمتها.
ثوانٍ من ترقّبٍ ثقيلٍ مضى، ثم وقعَت طرقات خفيفة، هادئة، على باب غرفتها. تجمّدت. حضنت صغيرها أكثر، وقلبها يطرق هو الآخر من الداخل. لم تتحرك. عاد الطرق، مرةً أخرى… ناعمًا… كأنه ليس تهديدًا بل رجاءً.
اقتربت، بثبات من يواجه مصيره، وسألت دون أن تفتح:
ــ من؟
جاءها الردّ بصوت نسائي مرتجف:
ــ أنا… أعمل هنا… سمعت طفلك يبكي… هل تحتاجين شيئًا؟
لحظة صمت، ثم همست من خلف الباب:
ــ لا… نحن بخير.
وتحت ضوء المصباح المعلق قرب السرير، عادت إلى طفلها، ودمعة ساخنة انزلقت من عينيها، لم تكن دمعة خوف، بل دمعة امتلأت بكل ما لم تستطع أن تقوله منذ بدأت هذه الرحلة.
احتضنته بقوة، وتمتمت له:
ــ نحن بخير… حتى لو لم يكن هناك من يشهد… نحن بخير، لأننا اخترنا ألا نخاف وسنعود الى صوفيا.
وفي اول ساعات اليوم التالي، حين غادر القطار محطة بورغاس، كانت تجلس قرب النافذة، تحمل طفلها النائم في حجرها، ووجهها ساكن كبركة ماء بعد عاصفة… لم تنم تلك الليلة، لكنها خرجت منها بشيءٍ لا يُشترى ولا يُعلّق: صوتها الداخلي، وقد صار أقوى من كل ما يمكن أن يحدث خلف باب مغلق.
***
سعاد الراعي
2025.07.29