نصوص أدبية

نسرين إبراهيم: الدومينو والسقوط الهندسي

لطالما أدهشني هذا السقوط الهندسي.. كأن الدومينو تحاول أن تشرح لنا سرّ الحياة: أن النظام قد يولد من الفوضى، وأن الفكرة لا تشتعل إلا بعد سقوطٍ متتالٍ لشيءٍ فينا."

خطة الدومينو وهندسة السقوط

جلس سُهيلان أمام طاولة خشبية صغيرة، وعلى الطاولة صفٌّ من قطع الدومينو المصطفّة بدقة. لم تكن لعبةً للتسلية هنا فحسب، بل خريطةٌ لوعيٍ تأمل طريقته في السقوط. تذكر كيف أن كل قطعة عندما تميل، لا تهوي إلى العدم؛ بل تستند إلى من يجاورها.

 في ذلك المشهد البسيط رأى فلسفةً للمعركة: سقوط منظّم خيرٌ من ثبات فوضوي، والنهوض المُرتّب أقوى من الاحتشاد العشوائي.

أرسل النداء إلى جنوده، لكن كلماته لم تكن نداءً لحمل السلاح فحسب، بل دعوةً للاعتبار: "سنرتب صفوفنا كما تُرتّب الألوان في لوحة. كل لونٍ يحمل دورًا، وكل دورٍ يرتكز على الآخر. لا نبحث عن سحق العدو، بل عن أن نُعدّ أنفسنا لنقف حين يسقط الآخرون."

قسم الجيش إلى مستويات لونية: المشاة في المقدمة، كطبقةٍ من الظلال التي تختبر أرض المعركة، الرماة على الأطراف كخطِّ ضوءٍ يقوّم الزوايا، والفرسان كنبضٍ يربط المركز بالأفق. لم تُخفَ على الجنود رمزية الألوان؛ فقد صار كل درعٍ يكتسب تدرجًا من الرماد إلى الفجر، يذكّر من يسقط أنهم على وشك أن يقبعوا في حضن رفيق لا في فراغٍ بلا معنى.

خطةُ الدومينو لم تكن مجرد ترتيبٍ مادي؛ كانت هندسةَ سقوطٍ محسوب. سُهيلان علّمهم أن يتركوا فراغاتٍ صغيرة بين الصفوف، فراغاتٌ تسمح بالحركة، بالامتصاص، وبالتحويل، عندما ينهار صفٌّ أمام العدو، لا يستغلّ ذلك الفوضى ليلبسها سيفًا. بل يُولي رفاقه مهمّةً: تحويل هذا السقوط إلى متنفسٍ لإعادة التشكل، إلى نقطة ارتكازٍ جديدة.

 السقوط هنا ليس هزيمةً نهائية، بل إيقاعٌ يعاد عزفه بوعي.

وصلت الأخبار عن تقدم "دراكون " بجيوشه المدهشة في العدد لكن الفاقد في التنظيم. دراكون اعتمد على زعزعة النفوس؛ أشعل الخوف كشرارةٍ تمسح بها العقل، وظنّ أن الفوضى ستولد الانهيار التام. لكنه لم يعِ أن سُهيلان قد صاغ جيشه كلوحةٍ متآزرة، وأن كل سقوطٍ فيها سيُحتضن، لا يُهمَل.

حين اشتعلت المواجهة على حافة السهل، بدا الأمر لأول وهلة وكأن الدمار قادم؛ خطوطٌ تنهار، وصرخاتٌ تعلو. لكن سُهيلان ظل هادئًا.

 أمر بالانسحاب الجزئي لمجموعةٍ معينة — انسحابٌ محسوب جعله يبدو وكأن جيشه يتهاوى.

دراكون انتفض، يرى الفرصة في الاضمحلال الظاهر، فاندفع.

هنا بالذات نشطت هندسة السقوط: الفراغات التي تركها سُهيلان تحوّلت إلى قنوات، وتحولت حركات الانسحاب إلى أمواجٍ تعيد تجميع الصفوف من الخلف.

الجنود الذين قيل عنهم إنهم سقطوا، قاموا ووجدوا أيادي رفاقٍ ترفعهم، ودرعًا يستكمل مكانهم.

دراكون في يقينه المتقدس بأنه كسر توازن العدو، وجد نفسه في مواجهة نسقٍ لم يفهمه؛ جيشٌ لا يظفر بوقوعٍ نهائي للآخر، بل يتعامل مع السقوط كدرسٍ ومرحلةِ انتقال. رأسه الإستراتيجي تعثّر أمام هذا الاتساق، وقلّب التكتيك إلى ورطةٍ فكرية: كيف تهزم عدوًا ينهض حتى حين يسقط؟

في الساعة التي خمدت فيها أصوات الحرب، وقف سُهيلان على ربوةٍ صغيرة يطل على ساحة الصراع. لم يحمل رايةً حمراء تنذر بالنصر الدموي، بل رفع رايةً رمادية كالفجر، لون التوازن بين ضوءٍ وظل. اقترب منه جنديٌ شاب، وقد فرش غبار المعركة وجهه، همس: "هل كان هذا الانتصار؟" ابتسم سُهيلان بهدوء وأجاب: "ليس الانتصار في إسقاط الآخر، بل في أن نعرف كيف نعيد ترتيب قطعنا عندما تسقط. النصر أن نكون هندسةً تبقى إنسانيةً، لا آلةً تهشم."

وهكذا صارت "خطة الدومينو" أسطورةً تُروى؛ ليس لأنها علمت كيف تُوقع القطع، بل لأنها علمت كيف تجمّل السقوط، وكيف تجعل من كل سقوط فرصةٍ لسندٍ ولصنعةٍ أجمل. ومنذ ذلك اليوم صار يُقال في الميادين: إن الذين يعلمون هندسة السقوط هم وحدهم من يعرفون معنى النهوض، وأن أروع انتصارٍ هو أن تُنقش عبارات الرفق على شظايا الانهيار.

***

د. نسرين إبراهيم الشمري

 

في نصوص اليوم