نصوص أدبية
أمينة شرادي: تلك المرأة
كانت عائدة الى بيتها تحمل بين يديها رغيفا وتضمه الى صدرها، كأنها تحضن طفلا صغيرا، وتغطيه بالشال الذي كانت تلف به رأسها. وتضغط عليه بقوة، خوفا عليه من الضياع. فقد انتظرت في طابور طويل، حتى استطاعت أن تحصل عليه. منذ ارتفعت الأسعار وانتشر لهيبها كما تنتشر النار في الهشيم، لم تعد "فاطمة" قادرة على تلبية حاجياتها ولا حاجيات زوجها المقعد. الذي كان يشتغل بإحدى مصانع الاسمنت. وأفنى عمره دون المطالبة بتحسين وضعه المادي. كان يخاف كثيرا من بطش مدير المصنع، الذي كان يهدد كل من ارتفع صوته احتجاجا على الساعات الإضافية أو على قلة اليد العاملة. كان انسانا مسالما، لا يسمع له صوت. في يوم، تأخر في العودة الى بيته، حل الليل وصمت الشارع الا من نباح الكلاب. ظلت "فاطمة"، جالسة تراقب الباب. "لم يتأخر يوما. أتمنى أن يكون خيرا" همست لروحها الخائفة. نامت على الكرسي، حتى استيقظت في الصباح الباكر على دقات عنيفة. سمعت صوت زوجها، انتفضت كجريح يتلوى من الألم. فتحت الباب، كان هناك، غارقا في دمائه ويحمله اثنان من زملائه. لم يتكلما كأن لهما تعليمات. كان هناك صمت مريب. تاهت فاطمة بين دماء زوجها وأنينه وصمت الرجلين. فهمت فيما بعد، أنه وقع له حادث في المصنع، على إثره سقط أرضا على ظهره ولم يعد يستطيع الحركة. وانفتحت رجله أثناء سقوطه وسال منه دم كثير. بدأ يصف لها الحادث، وظلت مذهولة، غير قادرة على استيعاب اللحظة. استيقظت برهة من سباتها المؤقت وسألته: "هل أخذوك الى المستشفى؟" صمت زوجها كأنه ارتكب جريمة. وحكى لها أن السيد المدير، اقترح عليه العلاج في مستوصف المصنع، وأنه سيحصل فيما بعد على تعويض كبير.
منذ حادثة المصنع وزوجها لا يستطيع الحركة، ولم يحصل الا على مبلغ زهيد مقابل خدمته الطويلة ولم يتحمل المصنع أية مصاريف أخرى لعلاجه. واكتوت "فاطمة" بسذاجة زوجها الذي سامح في حقه وبجبروت مدير المصنع واستغلاله لطيبته وجهله بحقوقه.
ومن يومها وهي تحاول أن توفر من مصروف البيت الزهيد كلما استطاعت. فهي تشتغل عاملة نظافة في احدى المؤسسات البنكية، عند عودتها الى البيت، تقوم بإخراجه للنزهة وأحيانا، تتركه مع بعض أصدقائه القدامى حتى يحين وقت العودة. ظلت "فاطمة" على هذا المنوال لسنوات، تحاول أن تخلق البسمة والفرحة في بيتها. تحمل طاقة من النشاط رغم الأزمات التي تعترض طريقها.
لكن هذا الغلاء الفاحش الذي أتى على الأخضر واليابس، انتزع تلك البسمة الصغيرة وتركها تائهة بين طلبات زوجها المقعد وطلبات البيت. فما تحصل عليه لم يعد يكفي.
خرجت في ذلك اليوم الذي لم يكن عاديا، لتشتري رغيفا. قالت لزوجها:
- أتمنى ألا يرتفع سعر الرغيف هو أيضا.
ابتسم زوجها والحزن يكاد ينط من عينيه:
-ستكون هذه هي الضربة القاضية. المسكين لم يبق له سوى الرغيف والشاي.
في طريقها الى البيت، كانت تحضن الرغيف بشدة وتمشي بخطوات صارمة. وتد ك الأرض برجليها دكا، كأنها ترغب في الانعتاق من الوضع الذي تعيش فيه. لا أثر للفرح على ملامحها. مرت من أمام محل لبيع الحلويات. توقفت قليلا، حاولت أن تذكر آخر مرة اشترت فيها قطعة حلوى. لم تستطع. ظلت تتأملها من وراء الزجاج. دفعت يدها في جيب جلبابها وأخرجت منه بعض الدراهم. كانت قليلة، لا تكفي لشراء حلوتين. لكنها تشجعت وقررت أن تلج المحل لاقتناء واحدة فقط. همست لنفسها "لا اظن أن ثمن الحلويات سيرتفع أيضا. " اشترت قطعة الحلوى، وبدت لها صغيرة جدا ربما لا تكفي لشخص واحد. ترددت وكانت تعيش تحت تأثير اللحظة قررت في لحظة سريعة، ودون تفكير أن تطلب قطعة أخرى دون أن تدفع ثمنها. حيث كان المحل غارقا بالزبائن واستغلت الفرصة وخرجت بسرعة شديدة، ودفعت جسمها خارجا وأسرعت دون الالتفات الى الوراء. تحمل الرغيف في يد والحلوتين في اليد الأخرى وتحاول أن تداري عليهما من نظرات المارة. لم تسرق يوما. كان أجر زوجها يكفيهما رغم ضآلته. يوم أصيب زوجها وحرم من عمله، لم ترغب أن تمد يدها لاحد، قررت ساعتها البحث عن عمل. العيش بكرامة أفضل من التسول. "أفضل النوم جائعة ولا أمد يدي". هكذا كانت دائما تقول لزوجها. لكن أن تسرق، سلوك لم تتوقعه أبدا. كانت نبضات قلبها ترتفع وتتزاحم داخل صدرها من شدة الخوف. ارتباك في حركات يديها وعرق ينط من جبهتها. مشت طويلا حتى تأكدت أنها ابتعدت عن المحل وجلست تسترجع أنفاسها الهاربة. ظلت جالسة والرغيف في يد والحلوتين في اليد الأخرى. كأنها تعيد شريط ما حصل وظهرت علامات الخوف والندم على ملامح استوطنها التعب والصبر. قالت تخاطب نفسها" ما قمت به سرقة. وسأذهب الى السجن وسيظل زوجي وحيدا وسيموت وحيدا بالبيت". ثم تابعت:" سيعذبني الله وسأصاب بمرض خبيث، وسأموت وأترك زوجي وحيدا " وأحدثت هذه الأفكار ثورة بداخلها وقامت بشكل آلي وغيرت وجهتها واتجهت عائدة الى المحل، مصممة على ارجاع الحلوى. في طريقها الذي بدا لها طويلا، تابعت حوارها الداخلي. ما ان اقتربت من المحل، حتى استولت عليها أفكار أخرى وقالت بصوت عال، كأنها تخاطب أحدا: "من حقي هذه الحلوى. ان الغلاء هو السبب. أنا لم أسرق." ورجعت دون تردد، وعزمت على ألا تفكر في الأمر وتعتبره منتهيا. كان زوجها ينتظرها كالعادة، سألها عن ثمن الرغيف. ابتسمت بسخرية وقالت له:
-لم يتغير، كانت المخبزة غاصة بالناس. بصعوبة شديدة حصلت عليه.
تنهد زوجها وقال لها:
- هذا الوضع أصبح صعبا جدا.
ثم قامت وابتسمت كطفل حصل على هدية وقالت له:
- لقد أحضرت لك مفاجأة.
وضحكت بكل حواسها. ضحك واستغرب، منذ زمن لم يرها فرحة ومبتسمة بهذا الشكل. فقذ أصبحت الشكوى والآهات تستولي على كل جلساتهما.
ابتسم بدوره وقال لها:
- ما هي هذه المفاجأة التي أعادت اليك البسمة؟
أحضرت الحلوتين ووضعتهما أمامه على المائدة الصغيرة والوحيدة بالبيت.
ساد صمت بينهما وكانت تنتظر ردة فعله. نظر اليها مليا وقال لها:
-من أين لك بالمال لشراء الحلوى؟
أجابت بشكل حاد، كأنها ترفض أن تشوش عليها تلك الأفكار التي جعلتها تروح وتجيء عند المحل:
- ثمنها رخيص، واستطعت الحصول على حلوتين. وتابعت:
-منذ متى لم ندق طعم الحلويات؟ هل تتذكر؟ أنا لا أتذكر..
وتاهت بنظرات متسائلة وغاضبة كأنها تبحث عن إجابة.
ذهل زوجها من اجابتها الغريبة، وأعاد السؤال لأنه لم يصدقها:
-كيف حصلت على الحلوى يا فاطمة؟
- اشتريتها. ترددت قليلا. ثم تابعت بصوت حزين:
-لقد اشتريت واحدة وأخذت الثانية ولم أدفع ثمنها.
رفع صوته وكاد أن ينط من كرسيه وقال لها:
-السرقة يا فاطمة؟ حاول ضبط نفسه. اقترب منها وقال لها:
-منذ متى تحولت الى سارقة؟
وضعت الحلوتين بكل هدوء في طبق ونظرت اليه بنفس صرامة اجابتها:
- لقد سرقوا عمرك في المصنع ورموك، لقد سرقوا حقي في العيش الكريم بسبب هذا الغلاء، أنا لم أسرق، أنا استرجعت الشيء القليل مما سرقوه.
-لا يمكن يا فاطمة أن نحل المشاكل بسرقة الآخرين.
لم تستسلم لكلامه. جلست بكل هدوء وأجابته:
-قلت لك أنا لم أسرق أحدا.
رفع صوته بحدة، حتى يعيد اليها صوابها وقال لها:
-لقد أصبحت مثل مدير المصنع، تسرقين ولا تبالين. ما الفرق بينكما الآن؟
نظرت اليه مليا وتأملته كأنها تراه لأول مرة ونامت في محراب الصمت.
***
أمينة شرادي






