آراء
عبد السلام فاروق: الإعلام بين قوسين!

الورقة الأخيرة لم تسقط بعد ..
في زمن يباري فيه "الرقمي" الريح سرعة، ويحاكي البرق خفة، يقف "التقليدي" كشجرة عتيقة، جذورها في أعماق التاريخ، وأغصانها تحاول أن تلامس سماء المستقبل. هل انتهى زمن الصحف المطبوعة والقنوات التلفزيونية؟ أم أنها تصارع كالفرس العجوز الذي يعرف أن ساعة رحيله قريبة، لكنه يرفض أن يموت واقفًا؟
الحقيقة التي لا يريد أن يعترف بها الكثيرون هي أن الإعلام التقليدي لم يمت، بل تحول. مثل الماء الذي يغير وعاءه، لكنه يبقى ماء. الصحف التي كانت تطوى تحت الإبط صباحًا، صارت تقرأ على الهاتف في القطار. الأخبار التي كانت تذاع في ساعة محددة، صار يمكنك سماعها وأنت في سريرك قبل النوم. الفرق أنك اليوم لا تنتظر الخبر، الخبر هو الذي ينتظرك.
إذن لماذا لا يزال التقليدي صامدًا؟
لأنه يحمل شيئًا من "الروح". هناك سحر خاص في صوت مذيع الراديو الذي يرافقك في زحام الصباح، أو في صحيفة الأحد التي تقرأها مع فنجان القهوة. هناك طقوس إنسانية لا يمكن للرقمي أن يقتلها. الأجيال الكبيرة ما زالت تثق أكثر بما تراه على الشاشة الكبيرة أو ما تقرأه في الجريدة الورقية، ليس لأنها لا تعرف التكنولوجيا، بل لأنها تعرف أن بعض الأشياء لا تستعجل.
فهل الرقمية عدو للأصالة، لا هي مرآة تعكسها بزوايا جديدة. المؤسسات الإعلامية العريقة التي خافت من الانقراض، اكتشفت أن بإمكانها أن تعيش مرتين: مرة في الماضي حيث المصداقية والعمق، ومرة في الحاضر حيث السرعة والانتشار. القناة التلفزيونية التي كانت ترفض "اليوتيوب" أصبحت تنافس "المؤثرين" على مشاهداتهم. الصحيفة التي كانت تحتقر "التغريدات" صارت تنشر مقالاتها على "إكس".
لو كانت الأخبار هي القلب، فالإعلانات هي الدم. واليوم، انتقل هذا الدم من شرايين الإعلام التقليدي إلى أوعية الرقمي. لماذا؟ لأن المعلن لم يعد يبحث عن "الجمهور"، بل يبحث عن "الجمهور الذي يريده بالضبط". في الرقمي، يمكنك أن تعلن عن ساعة فاخرة لهواة الرفاهية، أو عن لعبة إلكترونية للمراهقين، دون أن تضيع قرشا واحدًا على من لا يهتم.
لكن هل هذا يعني أن الإعلان التلفزيوني أو المطبوع قد مات؟ كلا. ما زال هناك بريق خاص لإعلان يبث في منتصف مباراة كأس العالم، أو ينشر في مجلة شهيرة. الفرق أن الإعلان التقليدي صار "للتذكير" أكثر من "التعريف"، بينما الرقمي صار "للتوجيه" أكثر من "الرش".
الرسالة لا تموت..
يقولون إن الإعلام التقليدي يشبه "الفنار" القديم الذي كان ينير الطريق للسفن. اليوم، صارت لدينا أضواء أكثر، وأجهزة أحدث، لكن بعض السفن ما زالت تفضل الضوء الخافت الذي يعرفونه منذ زمن. الفانوس لم ينطفئ، إنما صار besideه مصابيح LED.
السرعة مقابل العمق: هل نضحك على أنفسنا؟ في زمن يقاس فيه عمر الخبر بالساعات بل بالدقائق، صار "التفاعل" هو المعيار، لا "التأمل". نقرأ العناوين في عجلة، نشارك قبل أن نفكر، نعلق قبل أن نعرف. الإعلام الرقمي حولنا إلى "فئران تجارب" في متاهة لا نهاية لها من الإشعارات. كل منا صار يحمل في جيبه صحيفة عالمية تصدر كل ثانية، لكن قلوبنا لم تعد تتسع لأكثر من "منشور".
التقليديون يقولون: "نحن نصنع الخبر". والرقميون يردون: "نحن نصنع الزخم". والسؤال الذي يطارح نفسه: ماذا ينفع زخم بلا معنى؟
الجمهور الجديد: سيد أم عبد؟
لطالما كان الجمهور في الإعلام التقليدي "متلقيا"، يصغي إلى صوت الخبراء والمحررين. أما اليوم، فكل فرد صار "إعلاميًا". هاتفك الذكي هو استوديوك، ومتابعوك هم جمهورك. هذه الديمقراطية الإعلامية سلاح ذو حدين: الحد الأول: كسرت احتكار السلطة الإعلامية، وأعطت صوتًا للمهمشين. والحد الثاني: غيبت "التصفية الذهنية"، فصار الرأي العابر بمنزلة الحقيقة المطلقة. الإعلام التقليدي كان "حارس بوابة"، والرقمي حول البوابة إلى ساحة مفتوحة يدخل منها الصادق والكاذب، النبيل والوضيع.
في الماضي، كانت المؤسسة الإعلامية تخشى أن تفقد "سمعتها" إن أخطأت. اليوم، "التريند" يغفر كل شيء. الإعلام الرقمي صنع "ثقافة الاعتذار السريع": تخطئ اليوم، تعتذر غدًا، ينسى الجميع بعد أسبوع. الكل يريد "المحتوى" الآن، بغض النظر عن مصدره.
لكن أين الحقيقة في هذا الزحام؟ يقولون: "الحقيقة أول ضحايا الحرب". ونقول: "الحقيقة أول ضحايا التريند".
البيضة والحجر!
لم يعد السؤال من يملك المعلومة، بل من يملك القدرة على جعلها تنتشر كالنار في الهشيم. الإعلام التقليدي كان كالحجر الصلب .. ثقيل الوزن، بطيء الحركة، لكن أثره عميق إذا سقط. أما الرقمي فهو كالبيضة .. سريع الكسر، ينتشر محتواه بلمسة، لكنه قد لا يترك أثراً يدوم.
في زمن "اللايكات" و"الشارات"، صار الجمهور يحكم على الخبر ليس بمضمونه، بل بعدد التفاعلات حوله. وكما قال أحد الحكماء: "عندما يصبح المقياس هو العد لا العمق، فكل الأرقام تصير خداعاً".
المفارقة العجيبة أن الإعلام الرقمي أعطى الفرد قوة المؤسسة، لكنه في الوقت نفسه سلبه حصانتها: المؤسسة تخطئ فتعترف وتصحح، أما الفرد يخطئ فيصعد إلى التريند ثم يختفي.
أصبح كل منا يحمل في جيبه ما كان يحتاج إليه الإعلام التقليدي مبنى كاملاً وميزانية ضخمة لتحقيقه. لكن هذه القوة الجديدة جاءت بثمن باهظ: اختفاء "المراجعة الذاتية" التي كانت تميز المؤسسات الإعلامية العريقة.
الحرب الخفية
في معركة جذب الانتباه، صار المحتوى سلعة والجمهور عملة:
1. الإعلام التقليدي كان يبيع المحتوى للمشاهد
2. الإعلام الرقمي يبيع المشاهد للمعلن
هذه الثورة الاقتصادية حولت الإعلام من صناعة المعرفة إلى صناعة البيانات. لم نعد نحن الجمهور، بل صرنا "المنتج" الذي يتم تسويقه. وكما قال الشاعر: "صرنا نبحث عن الحقيقة، والحقيقة أننا صرنا سلعة".
للأسف أنتج الإعلام الرقمي ظاهرتين متناقضتين: الأولي : تسارع نشر المعلومات: حيث تنتقل الأخبار بسرعة الضوء. والظاهرة الثانية هي : تباطؤ التصديق: حيث لم يعد أحد يصدق أي شيء تماماً. أصبحنا نعيش في زمن "الشك المنهجي"، حيث كل خبر يحتاج إلى تحقيق، وكل تحقيق يحتاج إلى خبر. هذه الدائرة المفرغة خلقت ما يمكن تسميته "الغيبوبة الإعلامية" - حالة من الوعي المستمر لكن دون يقين حقيقي.
نحو إعلام إنساني
قد نكون اليوم بحاجة إلى "إعلام هجين" يجمع بين سرعة الرقمي في النقل، ومصداقية التقليدي في التحقق، فضلا عن شفافية المؤسسات في المساءلة، وأخيرا إنسانية الأفراد في التعبير. فكما أن الحضارة لم تلغِ الطبيعة بل أدمجتها في عمارتها، كذلك يجب أن يكون الإعلام الجديد: ليس إلغاءً للماضي، بل ارتقاءً به. عندما يصبح كل شيء إعلاماً لم يعد الإعلام مهنة أو وسيلة، بل صار حالة وجودية. كل نقرة على الهاتف، كل مشاركة، كل تعليق – هي لبنة في صرح الإعلام الجديد. السؤال الذي يبقى: هل نبنيه لنعيش فيه، أم ليحيا بنا؟
في النهاية، كما أن النار تدفئ إذا أحسنا استخدامها وتحرق إذا أسأنا، كذلك الإعلام الرقمي: قد يكون نوراً يهدينا، أو حريقاً يلتهمنا. الفرق يكمن في يد من يوقد الشعلة، وفي عين من يتابع الضوء.
***
د. عبد السلام فاروق