آراء
ثامر عباس: ما معنى القول إن (التاريخ يعيد نفسه)؟!

غالبا ما ترد على أسماعنا عبارة شائعة يتداولها الجميع بلا أدنى حرج مفادها ان (التاريخ يعيد نفسه)، وذلك كناية عن الأحداث الساخنة والوقائع الصادمة، التي يعتقد الناس أنها تعيد نفسها وتكرر ذاتها بصورة دورية رغم اختلاف الأزمنة وتوالي الحقب، كما لو أن الكرونولوجيا التاريخية تدور ضمن حلقات كونية مغلقة ما أن تشارف على النهاية حتى تبدأ من جديد. والحال هل - يا ترى - حقا"ان في ظاهرة تشابه الأحداث وتماثل الوقائع التي نصادفها في حياتنا الاجتماعية، ما يدلّ على كونها بمثابة عودة أبدية ونقطة شروع مستأنفة لأفعال وأحداث التاريخ، أم هي تجل (عرضي) لضرب من ضروب الصدف العديدة التي تقتحم وجودنا وتفرض حضورها الخاطف على نحو غير متوقع وغير مقصود ؟!.
لنتفق منذ البداية على حقيقة أن التاريخ كما يتبدى بصيغة (سيرورة) لا يعيد نفسه أبدا"ولا يكرر ذاته بالمطلق، من حيث كون طبيعته منوطة بحتمية القوانين الموضوعية الخارجة عن إرادة البشر والمستقلة عن رغباتهم والعصية على توقعاتهم، والتي من خصائصها أنها تؤطّر وتسيّر معطيات الوجود الطبيعي والإنساني على حدّ سواء. وإنما الذي يحدث في هذا السياق هو حصول ما يمكن اعتباره (تشابه عرضي) لبعض الظروف الخاصة والأوضاع الفريدة التي تفضي، في بعض الأحيان، الى حصول مثل هذه الظاهرة أو تلك، الأمر الذي يعتقده البعض انه كناية عن عودة للتاريخ . وهو الأمر الذي يرجح أن تترتب عليه وتتمخض عنه جملة من العواقب والتداعيات الضارة، التي ما كان لها أن تنبثق لولا الإيمان بهذا التصور السطحي والاعتقاد الساذج.
ورغم شيوع هذه الظاهرة في معظم مجتمعات العالم سواء منها المتقدم حضاريا"أو المتأخر، إلاّ أن كثرة وجودها وتواتر حصولها لا تلاحظ بنفس المقدار أو الكثافة بالنسبة لكلا النمطين من المجتمعات، ناهيك بالطبع عن تنوع مصادرها وتباين سياقاتها، تتناسب طرديا"كلما كان المجتمع المعني متموضعا"داخل أطوار حقب سوسيو - تاريخية قديمة وراكدة. أي بمعنى أن فرص تكرارها واحتمالات وقوعها تزداد بمعدلات مضاعفة كلما كان مستوى التطور الحضاري والإنساني للمجتمع المقصود يشير الى كونه لا يزال يرسف في أغلال التخلف والانحطاط، نظرا"لإعاقة السيرورات وتعطل الديناميات المسؤولة عن حراكه وتقدمه ؛ إما لأسباب داخلية أو عوامل خارجية أو كليهما معا".
والحال ما هي الأواليات والسياقات والمعطيات التي توهمنا بأن الأحداث والوقائع التاريخية التي سبق وأن كانت قائمة في أزمان سالفة وفاعلة في ظروف مختلفة، تظهر أمامنا كما لو أنها وليدة الحاضر وثمرة من ثمار تناقضات واقعه وصراعات جماعاته والتباسات تمثلاته، بحيث نبيح لأنفسنا – بلا أدنى تحفظ – إطلاق الأحكام المرتجلة على ما يجري أو يحصل، باعتبارها خاصية غامضة جبل عليها التاريخ ليمارس هذا الضرب من (الاستعادة) الدورية ؟!. والحقيقة ان تفسير هذه الحالة يستدعي منا التحلي بالعقلية والمنهجية التاريخية المقارنة، التي من شأنها تسليط الأضواء على أوجه التشابه والاختلاف ما بين ظروف وأوضاع ودوافع صيرورة الحوادث أو الظواهر التي حصلت في الفترات التاريخية السابقة، وبين نظيراتها التي يعتقد أنها (تماثلها) في عوامل التكوين والصيرورة في الفترات التاريخية اللاحقة. وهو الأمر الذي من شأنه أن يجنبنا الوقوع في فخاخ (المغالطة) التي من عواقبها حملنا على إسقاط كل ما يجري أو يقع من أحداث في الزمن (الحاضر)، على ما وقع وجرى من أحداث في زمن (الماضي)، بحيث لا نعود نرى في تنوع سيرورات التاريخ وتعدد زمنياته سوى حلقات منسوخة أو متكررة.
وإذا ما حاولنا مقاربة واقع العراق الحالي – خصوصا"بعد واقعة السقوط - وما يجري فيه من أحداث وما يشهده من وقائع، سنلاحظ ان المجتمع العراقي يعيش (حاضره) القائم كما لو أنه عاش في (ماضيه) المنصرم بكل ما فيه من سيئات وقباحات، سوى انه توجد بعض الاختلافات القليلة والتباينات الطفيفة بين هذا الزمن وذاك. ولذلك نجد أن المدّ (البدوي / العشائري) الذي كان مسيطرا" في الزمن السابق حين كانت (القبيلة) أقوى من (الدولة)، استعاد عافيته واستأنف نشاطه كما لم يحظى به من قبل في الزمن اللاحق حيث (القبيلة) و(الطائفة) وأخواتها تتحكم بمقاليد (السلطة). هذا في حين أن عوامل الاحتقان (الطائفي / المذهبي) التي تسببت بالكثير من التصدعات والانقسامات والصراعات في العهود التاريخية الماضية، اشرأبت عناصرها بنشاط وحيوية لم تكن تتمتع بهما من قبل، بحيث تبدو مفعمة بكل ما يؤجج الأحقاد المتراكمة والكراهيات المتفاقمة في الوقت الحاضر.
وهكذا، فعلى الرغم من ان المجتمع العراقي تبدو عليه علائم (التطور) في مضمار السيرورة (التاريخية)، إلاّ أنه لا يفتأ يمارس ضروب (التقهقر) في مضمار السيرورة (الحضارية). أي بمعنى انه كما تقادم وتعاظم وجوده في (التاريخ)، كلما تراجعت وتلاشت حظوظه في (الحضارة)، كما لو أنه يعكس عجزا "عضويا"أبديا" عن التوفيق بين كلا المضمارين الإنسانيين. وعليه حين يقول الإنسان العراقي المفجوع بماضيه، والمقموع بحاضره، والمخدوع بمستقبله إن (التاريخ يعيد نفسه)، فهو لا ينطق عن الهوى بقدر ما يعبر عن واقع (حاضر) مرير أبى إلاّ أن يذيقهم طعم الذلّ والهوان، كما أذاق آبائهم وأجدادهم من قبل شتى صنوف البؤس والحرمان. وعلى هذا الأساس تبدو صيغة القول بأن (التاريخ يعيد نفسه) لوصف الأحوال والأهوال، أقرب الى الواقع المعاش منها الى الافتراض المتخيل !.
***
ثامر عباس – باحث عراقي