آراء
عبد الأمير الركابي: ما يعرف بـ"اليسار" بين الانقراض والتحوّل (1)

لم يعد ممكنا التغاضي عما يحل على "اليسار" على المستوى العالمي، من حال غير مالوف ولامشخص من التداعي، صار يولد شعورا يزداد ترسخا بتجاوز ماهو واقع لمايمكن اجماله حتى ضمن مفاهيم التازم بصيغها المتعارف عليها، فالحاصل لهذه الجهه يغدو اكثر فاكثر محكوما لمايمكن نسبته الى مترتبات من نوع تعدي الطور او المرحلة التاريخيه، بمعنى مؤقتية وابتدائية الخلفية الموضوعية التي اليها يرتكز مفهوم اليسار المعاصرنشأة وضرورة.
ومع مايمكن ان يلاحظ على هذا الصعيد من تناولات من غير المتوقع خروجها عن نطاق "الايمانيه" المبهمه، حتى وان على قاعده نبذ التعصب، او التمسك المعتاد بالهيكليات، الا ان مايشار له مايزال هو وموجباته خاضعا للمنظور الاصل، ذلك الذي منه وفي غمرته ولدت الظاهرة المعروفة باليسارية، وعلى راسها الماركسية والشيوعية، فلم تدخل لعدم اكتمال موضوعاتها بعد، في هذا المجال بالذات، منطلقات وتاسيسات مابعد طبقية، ومابعد منظور اوربي حداثي مواكب للالة وانبثاقها، مع كل ماولد في غمرته من توهمية تضليليه، هي اليوم في لحظة الانحدار، في وقت يلح فيه الخروج من دائرة الوعي المشار اليه، تحت طائلة الضرورة القصوى، وماقد بلغته من تراكم مقارب لاحتمالية الانقلابيه النوعية على مستوى المعموره، واقعا وتفكرا.
ويعنى هذا في التطبيق ان مسالة اليسار بالذات، ناهيك عن مفاهيم متغلبه اخرى ونوعية لامجال على مستوى "تازمها" تحديدا، للتوصل بخصوصه الى اي تصور او قاعدة حكم فاصلة من دون اعتماد" المنظور الاخر"، المنتظر حلوله محل منظومة التصورات الاوربيه الحداثية الالية، وهو مايمكن ملامسه احتمالية الانقراض اليساري من دونه، فالمنظور الغربي الحديث اجمالا، واليساري ضمنه، هو عتبه اولى مؤقته وابتدائية ضمن عملية اشمل، هي المقصود والمبتغى الذي تنطوي عليه العميلة التحولية الكبرى، من اليدوية الى الالية بتدرجاتها، من المصنعية الاولى الاوربية، الى التكنولوجية الانتاجية اللامجتمعية (المفقسه خارج رحم التاريخ المجتمعي الامريكيه)، الى الطور التكنولوجي الاعلى المنتظر من هنا فصاعدا، ولان الانبجاس الاول الالي قد حدث في الموضع المجتمعي الارضوي الاعلى ديناميات ضمن صنفه، ولانه حالة "ازدواج" طبقي، فلقد كان متوقعا ان يتسم مارافقه من انقلابيه تفكرية بالدرجة الاولى، وبحضور متقدم ومدو،"الاكتشاف المتاخر" الدال على قصورية العقل اليدوي التاريخي بازاء المسالة المجتمعية، مع رفع النقاب عن "الصراع الطبقي"، وجعله منطلقا لتعيين قانون وحتمية ناظمه للعملية التاريخيه على يد ماركس و "ماديته التاريخيه"، الامر العائد زمنيا الى القرن التاسع عشر تحديدا، قبل ان تنتقل الفعالية الالية الى الكيانيه الجديدة المركبه أنيا، على انقاض مجتمعية هي بالاصل نمطية اخرى، من صنف مجتمعات "اللادولة"، تمت ابادتها بقوة مفعول الالة الحاسم.
هذا من دون ان يعرف العالم تعديلا، او ابتداعا كليا لمنظور آلي جديد، موافق للحاله التصدرية القيادية المجتمعية بلا تاريخ مجتمعي، ولا طبقات، ومع القرن العشرين عندما انتهى دور اوربا الافتاحي بتوهماته، استمر التوهم باعتباره حاجة وضرورة، وصودر ليصير حضور امريكا صدارة "غربيه"، وانتساب استمراي لمامعتبر قمة وذروة واجبه، لتغطية حقيقة كون المسار الالي ليس محطة واحدة، وانه يمكن ان يصير فعل نقيضه طبقيا وبنية عاجزة عن توصيف ذاتها، ولاتملك من المقومات مايمكن ان يضعها في صف المجتمعات وبناها نتاج تاريخها البنيوي الممتمد الى عشرة الاف عام، كما كان ممكنا لاوربا ان تدعي، لدرجة تكريس غلبتها النموذجية لابل ومركزيتها التاريخيه.
هذا في حين صار صعود النموذج الابادي الامريكي ابن ساعته، مرهونا بمصادرة النموذجية الغربيه، وادعاء الانتساب لها كخطاب تعريفي معلن، يقابله في العمق خطاب اخر مستتر، هو خطاب ابادة ماسبق، باسم " الرسالية"، وكون امريكا هي المصطفى الرباني الالهي الرسالي(1)، ماهو بالاحرى اضمار تكريسي لمبدا الاباده الممارس بالاصل لاجل اقامه الكيانيه مع ازاله الهندي الاحمر من الوجود، والاهم في كل هذا ليس التداخل المشار اليه بين حقيقة وجودية محورة ومقلوبه، وبين اصرار على الانتماء لمنظور غالب سابق، حرصا على استمرارية المنظور الابادي نفسه، معمما على المجتمعات التاريخيه برمتها، بل الاهم هو قصورية العالم، واستمرار خضوعه للرؤية الابتدائية الغربيه وتوهميتها، والعجز دون الكشف عن الحقيقة الانحدارية الحالة على العالم مفهوميا وانتاجيا ونمطيا.
لا اساس يمكن ان يمنح الرؤى اليسارية والطبقية الاصطراعية الثبات والديمومة النهائية، وان كان ذلك قد وجد ضمن ظروف القرن التاسع عشر، وحتى القرن العشرين، مع التوهمية الروسية"الاشتراكية" الايديلوجية، الممتزجه بالاستبدادية الروسية "اللينينيه"، وصدارة الانتلجنسيا المستندة للاله وفعلها، مع منظومة" مالعمل" وتوهميتها المنهارة اخيرا امام العولمه الانتاجية ومرونه التكنولوجيا الانتاجية على يد المجتمعية بلا تاريخ، ماكان من شانه الذهاب بالمسار العام الالي وتواليات فتراته وتراكمها، الى المازق الشامل لاجمالي الرؤية التوهمية الغربية المصنعية الباقية كلزوم لتبرير مايناقضها.
ليس الانقلاب الالي التا ريخي "طبقي"، الامن ناحية المنطلق الذي انتهى وقته، وكل التزام به، فضلا عن الاصرار عليه هوقصور و "رجعية" بحسب المصطلحات اليسارية، فالمجتمعات ليست "ازدواجا طبقيا" سوى في اوربا، بل هي من حيث الحقيقة والقانون الناظم للظاهرة المجتمعية "ازدواج مجتمعي"، والتحول او المنقلب الالي بعد اليدوي، هو لحظة انحسار النمط المجتمعي الارضوي، وعلى راسه الطبقي اعلى اشكاله ديناميات، والمستند الى قوة مفعول وحضور اليدوية الانتاجية الجسدوية الحاجاتيه، في الوقت الذي لم تكن فيه الصيغة اللاارضوية متوفرة على اسباب التحقق، وظلت في حال اصطراع وتفاعلية وصولا الى الانقلاب الالي الراهن، والذي مايزال لم تكتمل ملامحه بعد، مع مروره بالحقب والفترات الاوربية التوهمية الاولى، والعولمية المفقسه خارج رحم التاريخ، مايجعل من "اليسار" المفترض والمطلوب اتفاقا مع الجوهر التحولي الانقلابي الالي، انتقالا فاصلا وحاسما من القانون الالي الطبقي، الى القانون الاصطراعي المجتمعي، مع تباين الاهداف والحصيلة والنتائج المقصودة والمنتظرة كليا.
***
عبد الأمير الركابي