آراء

حيدر شوكان: من النجف إلى الشام.. نداء العقل في ساعة التصدع

وأنا أتابع ما يجري في سوريا، إذ تتآكل البنية الوطنية وتقترب من حافة التفكك، لا يسعني إِلَّا أنَّ أستحضر المشهد العراقي ما بعد سقوط نظام صدام، حين بلغت المحنة ذروتها: بلد ينهار، وخراب يمتد من الجغرافيا إلى الذاكرة، وجراح تفيض على طوائفه جميعًا. ذلك أنّ المحنة العراقية– بشهادات التاريخ لا الانفعالات– كانت أعمق، والخراب أشمل والجراح أكثر اتساعًا. ومع ذلك، بقي العراق قائمًا رغم ما فيه.

كان في عمق هذا التماسك رجل يسكن النجف، اسمه السيد علي السيستاني، آلت إليه زعامة التشيّع، رجل صاغه العلم وهذّبته الروحانية، فعاش بمنأى عن غواية السلطة وظهورها الزائف. لم يرضخ لردود الأفعال، ولم يفتح باب الدم حين استُدرج إليه مرارًا. رأى أتباعه يُذبحون على أعتاب كل حسينية ومسجد، فاختار الصمت المسؤول، والاتزان الذي يعلو على الغريزة.

لكن حين شارف الوطن على الحذف التام عام 2014، وحين بدا أنّ الذبح لن يستثني أحدًا، نطق بكلمة كانت أثقل من الحرب نفسها، وأصفى من الانفعال: فتوى الجهاد الكفائي. لم تكن دعوة للقتل، بل إعلانًا عن الحد الأخير لمسؤولية الوجود. لذلك يقول الدارسون: إن هذا النوع من الفتوى هو ما جعل علماء الدين الشيعة قادةً للشعب، ومنها اتسعت سلطاتهم السياسية والاجتماعية، المضافة إلى سلطتهم الروحية. [1].

يرى فالح عبد الجبار-عالم الاجتماع العراقي- أنّ الهوية الشيعية قوتها تعتمد في ثلاثة عناصر أساسية: أولًا، وفرة الرموز الدينيَّة التي تتيح بناء سردية جمعية متجددة. ثانيًا، كثافة الشعائر الدينية- الشعبية، ولا سيَّما زيارة الأربعين بوصفها طقسًا جماعيًا هائل الحضور. وثالثًا، وجود مرجعية دينية جامعة تمتدّ في عمقها التاريخي لأكثر من ألف عام، بما يوفّر استمراريةً مؤسسيةً نادرة في السياقات الإسلاميَّة [2].

إن قراءة فالح عبد الجبار لقوة التشيع من خلال ثلاثية (الرمز– الشعيرة– المرجعية) تفتح الباب لفهم التشيّع كمنظومة ثقافية- تاريخية تمتلك قدرة نادرة على إنتاج الذات وإعادة توليدها عبر الزمن.

1. فالرموز: الدينية الشيعية لا تشتغل فقط كجسور تواصل بين الماضي والمقدّس، بل هي أيضًا بنى إنتاج للمعنى في الحاضر. فالإمام الحسين، مثلًا، لم يبق رمزًا لمأساة تاريخية، بل تحوّل إلى مفهوم أخلاقي- سياسي يتجاوز شرطه التاريخي. الرمز هنا يُعاد تأويله مع كل سياق جديد. وهذه القدرة على "تجديد الرمز" هي ما يجعل التشيّع حيًّا في بنيته وشعاراته.

2. في الشعيرة: الزيارة، العزاء، اللطم، المواكب.. هي أشكال لإنتاج "جسد جمعيّ" له إحساسه الخاص بالزمن، والعدالة، والانتماء. إنها شعائر لمقاومة النسيان. وبذلك تتحوّل الشعائر إلى آلة سردية كبرى تعيد حياكة الذات الشيعية باستمرار، إذ يكون الجسد الشعائري بمثابة نصّ يتحرك على الأرض.

3. أما المرجعية: فهي بنية تراكمية تمارس وظيفة تأويلية وزمنية؛ إنَّها "ذاكرة حية" تحتفظ بتوازن الجماعة، وتمنحها القدرة على مقاومة التفتت والانزلاق نحو العدمية أو التطرف. قوّتها لا تكمن في سلطتها الفقهية فحسب، بل في كونها تمثّل نوعًا من "العقل الجماعي المتراكم"، القادر على إدارة التعارضات دون تمزيق البنية.

ما يقدّمه فالح عبد الجبار هو أكثر من توصيف اجتماعي– إنَّه تشخيص لأنثروبولوجيا التماسك الشيعي. فهذه الثلاثية تُنتج ما يمكن تسميته بـ"الهوية الدينامية"، أي هوية قادرة على أنَّ تكون وفية لذاكرتها دون أنَّ تتجمد فيها.

ومن ثَّم، ليس من العبث أنّ تتجلّى مواقف السيد السيستاني الحاسمة، فهي امتداد لتقليد مرجعي في ساعات مفصلية، تعاملت فيها النجف مع التحولات الكبرى بوعيٍ وطني وديني بالغ. ففي عام 1918، عند اجتياح الاحتلال البريطاني للعراق، اتخذت المرجعية موقفًا يطالب بالعدالة وخروج المحتل، معلنةً بداية حضورها السياسي في مواجهة القوى الأجنبية. وفي عام 1920، أطلق المرجع الشيخ الشيرازي شرارة الثورة ضد الاحتلال عبر فتوى شهيرة، أصبحت منطلقًا لثورة العشرين العظيمة، ومهّدت لقيام نظام ملكي دستوري عام 1924.

وانشغلت المرجعية في النجف بقضايا الإقليم، فساندت عام 1948 القضية الفلسطينية، ودعت مرجعية السيد محسن الحكيم المنابر الدينية لدعم نضال الشعب الفلسطيني، وأفتت بدفع الحقوق المالية الشرعية له، متجاوزةً الانقسامات المذهبية والدينية. وفي عام 1956، عبّرت المرجعية عن تضامنها مع مصر إبان أزمة السويس، وصدرت عنها بيانات واضحة تُجسّد هذا الموقف التضامني.

وفي عام 1968، حيث صعود حزب البعث إلى السلطة، ارتكز المشروع السلطوي الجديد على رؤية أمنية تُعيد ترسيم خريطة التهديد الوطني. فبينما شُيطن الأكراد بوصفهم التهديد الإثني الأبرز، نُظِر إلى الأحزاب الشيعية على أنَّها تشكيلات فكرية أولية، محدودة الانتشار، وغير قابلة – في تصور النظام – للتحول إلى قوى سياسية فاعلة، مما أبقاها في البداية خارج دائرة القمع المباشر، كأنها لا تزال في طور التكوين غير المثير للقلق. لكن في الفترة ما بين عامي 1980 و1988، وخلال الحرب مع إيران، اندفعت الدولة في أتون حرب طويلة أنهكت البنية المجتمعية والسياسية، وأعادت إنتاج "الشيعة" كهوية متهمة ومخترقة. واتّسم خطاب السلطة بازدواجٍ فادح: إذ حُمِّل بعض الشيعة تهمة الخيانة، فلاحقهم السجن والنفي والإعدام، فيما جرى استيعاب فئات أخرى في أجهزة الدولة، لا بوصفهم شركاء، بل كوسائط في معادلة ضبط ومراقبة الطائفة من الداخل.

وفي عام 1991، عقب الانتفاضة الشعبانية، أصبحت السلطة تنظر إلى التشيع كجسم متمرّد على منطق الدولة ذاتها. تحوّلت العلاقة إلى قطيعة قمعية، إذ جُرِّدت الطائفة من أي شرعية سياسية أو وطنية، وتمت معاملتها كعدو داخلي تجب محاصرته، لا محاورته[3].

أما في المرحلة ما بين 1991 -2003، في ظل الحصار وما بعده، ومع التآكل التدريجي لهيبة الدولة تحت وطأة العقوبات الدولية، انفتحت الثغور أمام فواعل شيعية كانت حتى ذلك الحين تعمل في الظل. تحرّكت هذه الكيانات من الهامش إلى المركز المجتمعي، لتعيد إنتاج الفعل الديني بوصفه فعلًا اجتماعيًا ومؤسساتيًا قادرًا على ملء الفراغ كما حصل مع التجربة الفريدة للسيد محمد محمد صادق الصدر. فكانت تلك لحظة التحول التي مهّدت لصعود النفس الشيعي المؤسسي بعد عام 2003، كتحقّق تاريخي متراكم.

(ما بعد 2003): أحدث سقوط النظام لحظة انكسار جذري في معادلة الدولة والطائفة، إذ انتقل الشيعة من الهامش المعارض إلى مركز الفعل السياسي، من خلال إعادة صياغة لشرعية الدولة من جديد. وهذا التحول جاء كولادة مؤلمة لعلاقة مأزومة بين الإرث الديني وسنوات السحق وضرورات الدولة الحديثة وسلطة الاحتلال الأمريكي، بين المرجعية كمركز رمزي للشرعية، والدولة كمؤسسة سيادية تتطلب إنتاجًا دنيويًا للسلطة.

لقد كانت فاعلية الشيعة كامنة في حضور المرجعية الدينية، كقوة رمزية عميقة أعادت تنظيم حركة الفعل داخل المجتمع. فقد شكّلت المرجعية نقطة اتزان وسط الفوضى، ودَفعت المجتمع دفعًا نحو الدولة كأفقٍ ضروري وضامن لتفادي الانهيار. ومع أنّ المرجعية لم تُخفِ مآخذها الجوهرية على مسار العملية السياسية، فإنها– وبلغة الصمت المدوي– أوصدت الأبواب في وجه الطبقة السياسية، عن موقف أخلاقي ناقد، يُضمّن العتب والمعارضة معًا.

بعد هذه الجولة المكثّفة، ينهض السؤال بطبيعته دون استدعاء، ويقفز إلى الذهن بحدة: ما الذي تفتقر إليه التجربة السورية، إذا ما وُضعت في مقابلة– وإنْ بشروط تاريخية مغايرة– مع نظيرتها العراقية؟ في تقديري، يكمن الجواب في جملة من العناصر العميقة، ومنها:

أوَّلًا: الافتقار إلى مرجعية اجتماعية دينية عقلانية جامعة، تتجاوز الحزبية والطائفية تتسع للبلد ككل.

ثانيًا: تفتّت البنية المرجعية: فالساحة السورية خضعت لتنازع المرجعيات منذ سنوات: الإسلام السياسي والسلفي، القوميين، الليبراليين، والعسكرة الخارجية.

ثالثًا: غياب مركز وطني- أخلاقي يجتمع حوله أغلبية السوريين يضبط البوصلة عند اللحظات الحدّية. في التجربة العراقية، حتى مع غياب الدولة كانت النجف دائمًا "حدٌّ رمزيّ" للانهيار، لا يُسمح بتجاوزه. ومن ثَّم، ما الذي يمكن أن تستفيده سوريا من النجف بوصفها مرآة للاستلهام لا للاستنساخ فهذا الأمر متعذر بالضرورة؟

أن تُؤسّس سوريا الجديدة على عقلانية غير انتقامية، عابرة للطوائف، تراهن على الإنسان لا على الجماعة.

أن تشتغل على إنتاج مرجعيات فكرية وأخلاقية تشبه دور النجف لا في تديّنها، بل في حكمتها التاريخية.

أن يُفهم أن إنقاذ الدولة لا يعني بالضرورة استنساخ الدولة، بل استرداد المجتمع أولًا.

فسوريا في وضعها الراهن بأمسّ الحاجة إلى مثل هذه الحكمة والعقلانية المتجاوزة لا لصدّ العنف بالعنف، بل لمنع سقوط البلد نفسه وحذفه نهائيًا من الخارطة. سوريا بحاجة إلى حكمة السيستاني لا إلى ارتهان حكمت الهجري بالخارج والتقوي بإسرائيل. سوريا اليوم ليست بحاجة إلى استدعاء الخارج ولا إلى تبرير الاحتماء بمشروع استيطاني يمزّق روحها، بل إلى صوت بعقل السيستاني وروحه، يُنقذها من السقوط ويعيد بناء الضمير الجمعي، وإيقاف النزيف بالمسؤولية لا بالمزايدة. سوريا لا تحتاج إلى مزيد من الحلفاء بل إلى حكمة تحفظ لها الحق في البقاء. سوريا اليوم في قلب مأزق معقّد ومتشابك؛ فهي معلّقة بين نظام يحكمها وتثقله جماجمُ القتلى، ومحتشد بجنود عابرين لفظتهم أوطانهم الأصلية لتطرّفهم، لا يحملون من لغة العالم سوى السلاح، ولا من الثقافة سوى منطق الرصاصة. ومن جهة أخرى، ثمَّة إسرائيل لا ترى في الجغرافيا السورية إلَّا رقعةً يجب تفكيكها، وتركيا تحوّل المأساة السورية إلى منصّة لتوسيع ظلّها وبسط خطابها.

وفي هذا الفضاء المتداخل من الطوائف والولاءات والسوق السياسي المفتوح على الخارج، ستعيش سوريا لسنوات من التيه- مع الأسف- لا تعود الحلول الكلاسيكية كافية، ولا تُجدي المعالجات المؤقتة. ما يُنقذ سوريا لا هو انتصار فريق ولا هزيمة آخر، بل ولادة عقل يتجاوز الاصطفاف ومشروع يؤمن به أهله لأنَّه يلامس حقيقتهم لا مصالح وكلائهم.

نكمل توسعة الفكرة وإنضاجها في المقالة القابلة.

 ***

أ.م.د حيدر شوكان سعيد

جامعة بابل/ قسم الفقه وأصوله

....................

[1] ينظر: عبد الأمير زاهد، الدور الديني لمرجعية النجف المعاصرة في صناعة السلام، بحث منشور كتاب " نحو ثقافة الحوار بين الأديان، وهو جزء من وقائع أعمال المؤتمر الدولي الأول، بيروت 12-13 أيلول، سبتمر- 2017، 208.

[2] ينظر: فالح عبد الجبار، صراع الأمة والدولة، ضمن كتاب الصراع المذهبي، تحرير: حسن ناظم، إياد العنبر، الناشر: كرسي اليونسكو للحوار- جامعة الكوفة، الطبعة الأولى- 2018م، 49.

[3] ينظر: عبد الأمير زاهد، الدور الديني لمرجعية النجف المعاصرة في صناعة السلام، 208.

 

في المثقف اليوم