آراء

عجلية عيش أوراق فكرية "مُهَرَّبَة" في زمن الحِصَار

مع الكاتب والمحلل السياسي عبد اللطيف سيفاوي

أوراق فكرية مهربة بطابع ثوري في زمن الحصار، هي رحلة إبداعية جديدة في الوضع الاحترافي، وعندما يصل الكاتب إلى هذا الوضع فقد دق باب الخطر، هي مغامرة قلم أبي ألا يصمت، ليواصل نضاله من أجل قضية مؤمن بها، يدافع عنها مهما كانت مخاطرها أو نتائجها، تلك هي الرحلة التي خاضها رجال المواقف خاضوا معركة حاربوا فيها الغطرسة التي تمارسها أنظمة القمع الفكري والسياسي، يقول المفكر عبد اللطيف سيفاوي إنّ من أكبر تحدياتنا اليوم أن نعيد ربط النفوس بقضايا مشروعة وأهداف تتجاوز الأنا، يمكن القول ان عبد اللطيف سيفاوي مناضل ذو وزن ثقيل، له مقالات عديدة عالج فيها العديد من القضايا نشرت في مواقع إلكترونية وجريدة البصائر لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي يعتبر من أبرز أعضائها

في أوراق الكاتب والمحلل عبد اللطيف سيفاوي نقف على مجموعة من المفاهيم وظفها الكاتب كمفهوم (الثقافة، المثقف، النخبة، الصفوة، الجماهير، التوتر الخلاق، الحداثة، النهضة، التقدمية، المشروعية، الإلتزام، التأثير، التغيير، التجديد، الفاعلية، الوعي)، وغيرها من المفاهيم التي ينبغي تحليلها وربطها بالواقع المعاش، ثم غرسها في الضمير العربي، في ظل الصراع الدولي وسباق التسلح بين الدول وما يحدث في الساحة الدولية، وتناقض الافكار والتوجهات ففي منشور له بعنوان: "حين يغيب التوتّر الخلاق" يطرح فيه سؤال: لماذا نعجز عن تجاوز أنفسنا؟، يقول أنه ثمة توتّر داخلي ضروري لكل نهضة: انشداد نفسي يولد الفعل ويشحذ الإرادة لتجاوز الذات وخدمة أهداف عليا، اليوم، يغيب هذا التوتّر في بيئتنا الاجتماعية والثقافية، فتتراجع روح الالتزام وتذوي دوافع التضحية، لم تعد البيئة الرمزية التي فشلت في أن تكون القدوة وهي تواجه رياح التغيير والحداثة وأضحت غير قادرة على بعثّ المعنى أو إلهام النفوس كما يقول هو، حيث اكتفى كثيرون بالسعي الفردي نحو مصالحهم الخاصة، ومع مشروعية هذا السعي.

لقد ظل هؤلاء عاجزون عن خلق حركة جماعية تدفع المجتمع للأفضل، ولذلك فإنّ من أكبر تحدياتنا اليوم أن نعيد ربط النفوس بقضايا مشروعة وأهداف تتجاوز الأنا، وأن ننعش ذلك التوتّر الخلاق الذي يصنع الالتزام ويؤسس لأيّ نهضة حقيقية، عن مفهوم النخبة ودورها في عملية التأثير وهو ربطٌ أثار كثير من التفاعلات لدى القراء، رغم وجهاته فهو يطرح إشكالات عديدة واضحة، حيث يُعَرِّفُ الأستاذ سيفاوي مفهوم التأثير على أنه المعيار الوحيد، يصبح العالمُ قليلُ التأثير خارج تعريف النخبة، ويصبح الجاهلُ المؤثر أو الشعبوي داخلها!، الإشكال حسبه ربما يكون ناتجا عن تصور واسع بأن "النخبة" مرادفة لـ"الصفوة" ذات الحمولة الإيجابية، بينما الواقع أكثر تعقيد، بحيث يمكن أن تكون النخبة صالحة مصلحة، كما يمكن أن تكون فاسدة مفسدة، من هنا، يصبح من الضروري ألا نكتفي بتعريف واحد للنخبة، بل ننفتح على تصنيفات ضرورية: (نخبة فاعلة وأخرى مغيبة، نخبة ملتزمة وأخرى انتفاعية، نخبة شعبوية وأخرى واعية..الخ) ونضيف نحن نخبة ثورية (ثائرة) وأخرى ذيلية (سلبية وتابعة)، وهكذا يصبح التأثير عنصرا مهما، نعم، لكنه ليس المعيار الوحيد في فهم من يكون من النخبة فعلا، يطرح عبد اللطيف سيفاوي تساؤلاته ويبقيها مفتوحة: أين نخبتنا؟ ولماذا ابتعدت عن الفعل والتأثير؟ وهل تغيّبت، أم غُيّبت، أم اختارت الانعزال؟، في الحقيقة لم يحدد عبد اللطيف سيفاوي عن أيّ نخبة يتحدث، هل عن النخبة المثقفة التي يطلقون عليها اسم " الإنتلجنسيا"؟ أم النخبة الدينية ممثلة في رجال الدين؟ أم النخبة العسكرية (الجيش)، أم الطبقة السياسية؟ أم هناك نخبٌ أخرى، التي نجدها في المنظومة القضائية وهذه الفئة لها سلطة القرار وصناعته، من خلال سَنِّهَا النصوص التشريعية (القوانين) وما إلى ذلك، هذا التنوع قد يقود إلى خلق نوع من التوتر، لدى الفرد أو المجموعة وعلى كل الأصعدة والمستويات، خاصة المستوى السياسي، باعتبار أن هذا الأخير هو حالة من عدم الاستقرار والترقب في العلاقات بين القوى السياسية المختلفة، سواء كانت داخل الدولة أو بين الدول.

نُخبٌ غائبة أم نخبة مغيَّبة؟

يجيب عبد اللطيف سيفاوي، وربما يكون ردا على تساؤلات من سبقوه من الذين يحملون في قلوبهم الألم والوجع لتراجع الأمّة، بل سقوطها في فخ القابلية للإستعمار على حد قول مالك بن نبي، بعد أن استمع إلى محاضرة مهمة حول "النخبة وضرورة التجديد"، وبالنظر لما تتميز به هذه الفئة (النخبة) من فعالية، من منطلق الأدوار التي تمارسها في المجتمع، فقد أثارت لديه ملاحظتين جوهريتين: الأولى تتعلق بمصطلح النخبة في مفهومها العملي، وإن كانت قائمة على معيار التأثير أم لا، وهل من يؤثر في مجتمعه يعدُّ من النخبة؟ ومن لا يُؤثّر هو ليس منها ولا ينتمي إليها، مهما بلغت معرفته أو شهاداته، ونحن نتابع منشوراته، نلاحظ أن عبد اللطيف سيفاوي يرفع كل التحفظات في التعريف بمفهوم النخبة، إذ يراه كاشفا عن عمق الأزمة التي تعيشها المجتمعات العربية، فبناءً عليه، تقصى شريحة واسعة من المتعلمين وأصحاب الكفاءات من دائرة "النخبة"، فقط لأن تأثيرها في المجتمع محدود أو غائب، وهذا لا يُدين هذه الفئة بقدر ما يطرح سؤالًا أخر وأكثر إلحاحا: لماذا فقدت النخبة قدرتها على التأثير؟ وما الذي عزلها عن الناس والواقع؟ ويصل الكاتب إلى مَخْرَجٍ وهو أنه إلى جانب التجديد، يفرض الواقع علينا أن نبحث عن أليات نعيد بها القيم التي تراجعت أو التي فقدناها بل ضيعناها: (قيم التضحية، الإخلاص، المسؤولية، خدمة الناس..الخ)، فنجده يضع عنوانا إشكاليا مناسبا لتحريك الضمير العربي وإيقاظه من سباته وهو: " دعوة النخبة إلى التجديد"، في حين أن السؤال الأوْلى هو: هل النخبة حاضرة أصلا؟، أي إثبات وجودها وإن كاان تفاعلها مع المجتمع يسمح لها بأن تؤثر وتُجدّد؟

ثقافة الحد الأدنى: كيف نخذل مشاريعنا بأيدينا؟

في هذه الورقة يطرح عبد اللطيف سيفاوي أزمة المثقف، وهو يغرق في التناقضات والضدّيّة إن صح التعبير، يقول عبد اللطيف سيفاوي: " في مشهد متكرّر على امتداد المجتمعات المتعطشة للتغيير، يبرز نمط سلوكي غريب: حماس في الخطاب، وفتور في الفعل، نعلن عن نوايانا الإصلاحية، نرسم الأهداف الكبرى، نملأ الفضاء العام بالشعارات، لكن حين يأتي وقت الفعل، نلجأ إلى الخدمة في حدها الأدنى، ذلك الحد الأدنى من الجهد الذي لا يُغير شيئا، لكنه يُسكن الضمير مؤقتا، هذه الظاهرة، التي نعيشها ونشارك فيها بوعي أو بغير وعي، تفرغ الفعل الإصلاحي من محتواه الحقيقي، فنحن لا نعمل بما يتناسب مع حجم الأهداف التي نرفعها، بل نكتفي بحركة رمزية، بادرة سطحية، أو مشاركة شكلية، وكأننا نحاول إقناع أنفسنا أننا "قمنا بالواجب"… في حين أن الواقع يبقى على حاله، أو يزداد سوءا"، ربما نقف معه في هذا الرأي، لأن المبادرات في الفضاء المدني رغم أنها تنطلق بنية حسنة، لكنها سرعان ما تُختزل إلى مظاهر أو مناسبات هي في الواقع شكلية وموسمية، تُحدَّد الأهداف لا لتتحقّق أو تكون مشروع مجتمع يتُجسَّدُ في الميدان بل لتعطينا وهم الوعي والجدية، وكما يقول هو، فقد يكون لنا إدراك بما نريد، أو نُقنع أنفسنا بذلك، لكن بعدنا عن "عالم الأشياء" يجعلنا لا نتجند فعليا لما نريد، وهنا تتكرّر المفارقة: كيف نطمح للتغيير دون أن نُغيّر ذواتنا ونطور أدواتنا؟ كيف نحلم بواقع جديد ونحن نكرر السلوك القديم؟ يشير عبد اللطيف سيفاوي إلى دور " الفاعلية"، في أبسط صورها، وهذه الفاعلية استمدها من الفكر البنّابي، لكنه أعطاها بعدا جديدا، فهي في نظره تعني أن يُبذل الجهد المناسب لتحقيق الهدف المنشود، وأن أيُّ إصلاح لا يبنى على هذا التناسب هو مجرد خداع للذات، لأننا لا نريد أن ندفع الثمن الحقيقي للإصلاح، ونحن نقود الحراك المدني، ويبقي السؤال الجوهري هو: هل نحن مستعدون لبذل الجهد الذي يتناسب مع هذا الذي نريده؟

ما هو معلوم أن الكاتب والمحلل عبد اللطيف سيفاوي من المتأثرين بفكر مالك بني، فهو عضو في الكرسي العلمي مالك بن نبي للدراسات الحضارية، وعضو بارز في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وكاتب مقالات تناول فيها القضايا العربية المطروحة برؤية واقعية واستشرافية للمستقبل، وقد لقيت جدلا واسعا، لاسيما القضايا المتعلقة بالهوية والعرقية، نقرأ على سبيل المثال لا الحصر المقالة الموسومة: "الاستعمار الفرنسي والقضية البربرية"، وفي منشوراته نجده يتكلم بلغة الوجع وهو يقف على وقت مضى (ولا يزال) كانت فيه مؤلفات مالك بن نبي مُحَاصَرَة، لا تجد طريقها إلى القارئ إلا سرًّا أو بجهد مضنٍ، كانت الأسماء المروّجة حينها تُمنح أولوية العرض والانتشار، لا لقيمة ما تكتبه، ولكن لتوجهاتها الأيديولوجية المتناغمة مع السياق الثقافي الرسمي أو مع أهواء "النخبة" المتغربة، من بين هؤلاء، من رأى في إلحادِه وتنكره للإسلام ورسوله عليه الصلاة والسلام عنوانًا للتقدمية، ومن موقع هذا الادعاء حكم على مالك بن نبي بالرجعية، دون أن يكلّف نفسه عناء قراءة كتبه أو فهم مشروعه، كم هو جميل أن نعتز بفكر مالك بن نبي ونسترجع مأثره وهو ما قام بها هذا الكاتب وهذا يكفيه أن ابن نبي يرى أن نهضة الأمة لا تُستورد، بل تُبعث من داخلها، من قيمها الحضارية وروحها الدينية، ليحكم عليه بالإقصاء، إن مأساتنا يقول عبد اللطيف سيفاوي مزدوجة : مثقف صامتٌ، وجمهورٌ منصرفٌ، فحين تفقد الأمة حاجتها إلى الكلمة الهادية، وتزداد شهية الجماهير للسطحي والمثير، تصبح الكارثة ثقافية جماعية، لأن الثقافة ليست عزلة فكرية، بل مسؤولية اجتماعية، كما هي ليست انسحاب إلى الفكر، بل نزول إلى الميدان وانخراط في الواقع، وارتباط حيٌّ بقضايا الناس وهمومهم، ولو يحدث العكس حينها تصبح القرارات أدوات استفزاز، وإن ذلك يكشف أن صانعي القرار قد فقدوا الإحساس بنبض مجتمعهم.

***

علجية عيش الجزائر

في المثقف اليوم