آراء

عبد السلام فاروق: عن الاستعمار والكلمات التي تسرق التاريخ!

كثيرًا ما نردد كلمات من غير أن ننتبه إلى ما تحمله في طياتها من معان مسبقة، وكيف تشكل وعينا دون أن ندري. ومن أخطر هذه الكلمات كلمة "الاستعمار"، التي صارت تطلق على الفترة التي هيمن فيها الغرب على كثير من بلدان العالم، ومنها بلادنا العربية.

ولكن، هل سألنا أنفسنا يومًا ما الذي تعنيه هذه الكلمة حقًا؟ ومن الذي صاغها، ولماذا؟

إذا عدنا إلى الجذر اللغوي للكلمة، نجد أنها مشتقة من "عَمَر" أي أصلح وأقام وأعطى الحياة. فكأن من يستعمر يأتي إلى أرض خراب ليعمرها، ويبني فيها حضارة من العدم. وهنا تكمن المشكلة. فهل كانت أراضينا قبل مجيء المحتل أرضًا بلا تاريخ، بلا حضارة، بلا شعب؟ بالطبع لا.

بلادنا، من المحيط إلى الخليج، كانت عامرة بحضارات عريقة، بأنظمة حكم، باقتصادات مزدهرة، بثقافات غنية، وبمجتمعات متطورة. لم تكن "أرضًا بلا شعب" كما ادعت بعض الروايات الاستعمارية، ولم تكن صحراء قاحلة تنتظر من يأتي ليزرع فيها بذور المدنية. ما حدث كان شيئًا مختلفًا تمامًا: كان احتلالًا، استيطانًا، نهبًا للموارد، وتدميرًا ممنهجًا للبنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية القائمة. كان استبدالاً لحضارة بحضارة، وليس "تعميرًا" لفراغ.

لماذا، إذن، نستخدم نحن أنفسنا مصطلحًا يصور المحتل كمصلح ومنقذ؟ لأن اللغة، في كثير من الأحيان، تكون أداة هيمنة. فالذي يسيطر على الأرض، يسيطر على السردية، ويكتب التاريخ من وجهة نظره. وهكذا، تتحول عملية السلب والنهب إلى "رسالة تحضر"، ويصبح القهر والاستغلال "مهمة تنوير". ونحن، حين نكرر هذه المصطلحات من غير وعي، نكون قد قبلنا – دون أن ندري – بالرواية التي كتبها المنتصر.

هذه الظاهرة ليست جديدة. فالمؤرخ الإنجليزي الشهير "إريك هوبسباوم" قال إن التاريخ يكتبه المنتصرون. ولكن الخطر الأكبر هو عندما يبدأ المهزومون أنفسهم بترديد رواية المنتصر، فيصبحون شركاء في تشويه تاريخهم الخاص. إنها حالة من "الاستعمار الفكري" الذي يظل مُستمرًا حتى بعد رحيل آخر جندي محتل.

ولعل في تجربتنا العربية أمثلة صارخة على ذلك. ففي الجزائر، مثلاً، لم يكن الاحتلال الفرنسي "استعمارًا" بالمعنى التعميري، بل كان محاولة لطمس الهوية الوطنية، وتحويل البلاد إلى جزء من فرنسا، مع نهب ثرواتها وتهميش لغتها ودينها. وفي مصر، جاء نابليون تحت شعار "التنوير" ومعه المطبعة وعلماء الآثار، لكنه جاء أيضًا بالمدافع والبارود، وكان مشروعه في الأساس مشروعًا استغلاليًا استعماريًا بامتياز.

والأمر نفسه ينطبق على فلسطين. فما يسمى بـ "استعمار" فلسطين هو في حقيقته عملية استيطان استبدالية، تهدف إلى إحلال شعب مكان شعب، وثقافة مكان ثقافة، وتاريخ مكان تاريخ. ووراء استخدام كلمة "استعمار" في هذا السياق تبرير ضمني بأن الأرض كانت "بلا شعب"، أو أنها كانت بحاجة إلى من "يعمرها"!

إن التحرر الحقيقي يبدأ بتحرير العقل واللغة

إذا اتفقنا على أن "الاستعمار" تسمية مغلوطة، فإن السؤال الجوهري الذي يلي هو: ما الذي كان يدفع هذه الآلة الضخمة للتحرك عبر المحيطات والصحاري؟ وما هي الآليات التي اتبعتها لترسيخ وجودها وتحقيق أهدافها؟ هنا، ننتقل من نقد المصطلح إلى تشريح البنية الاقتصادية والسياسية للمشروع الاستعماري، التي جعلت من "التعمير" اللفظي غطاء لنهب منهجي.

أولاً: الاقتصاد.. محرك الآلة الاستعمارية الأول

لم تكن الدوافع الاستعمارية، في جوهرها، "رومانسية" أو "تنويرية" كما أُريد لها أن تظهر. لقد كانت، بكل وضوح، اقتصادية بالأساس. يمكن تلخيص هذه الدوافع في معادلة بسيطة:

1.  المواد الخام: كانت الدول الصناعية الناشئة في أوروبا بحاجة ماسة إلى موارد رخيصة وغير محدودة تقريبًا: القطن من مصر، الفوسفات من المغرب والجزائر، المطاط من الكونغو، النفط لاحقًا من الخليج. كانت بلادنا مخزنًا للمواد الأولية ينهب بشكل ممنهج ليمد آلات الثورة الصناعية في الغرب.

2.  السوق الاستهلاكية: بعد أن أنتجت المصانع الأوروبية سلعًا بكثرة، احتاجت إلى أسواق جديدة لتصريفها. فكانت البلاد المستعمرة سوقًا احتكارية تجبر على شراء البضائع الأوروبية، مما أدى إلى الإجهاز علي الصناعات المحلية الناشئة لأنها لم تستطع المنافسة. لقد حولنا من منتجين إلى مستهلكين دائمين.

3.  رأس المال الفائض: كان لدى الطبقات الرأسمالية في أوروبا فائض من رؤوس الأموال تبحث عن مجالات استثمارية ذات ربح أعلى. فكان إنشاء المشاريع في المستعمرات (سكك حديدية، موانئ، مطارات) استثمارًا مربحًا ومحميًا بجيوش الاحتلال.

هكذا، تحولت الاقتصادات المحلية المترابطة والمكتفية ذاتيًا إلى حد كبير، إلى اقتصادات مشوهة تابعة تمامًا للمركز الأوروبي. اقتصاد يقوم على تصدير مادة خام واحدة (اقتصاد أحادي الجانب) واستيراد كل شيء آخر. هذا التشوه هو أحد أعقد إرت الاستعمار وأصعبها معالجة، وهو ما يفسر جزءًا كبيرًا من تبعيتنا الاقتصادية الحالية.

ثانيًا: الاستعمار الاستيطاني.. أبعد من مجرد نهب

ليست كل أشكال الهيمنة متشابهة. فبينما كان الهدف في بعض المستعمرات هو الاستغلال الاقتصادي، ظهر شكل أكثر شراسة ووحشية هو الاستعمار الاستيطاني، كما في حالات الجزائر وفلسطين. هنا، لم يكن الهدف مجرد استغلال الأرض والثروة واليد العاملة، بل استبدال السكان الأصليين تمامًا بمستوطنين جدد. كانت العملية عبارة عن: تطهير عرقي ممنهج، سواء بالطرد أو الإبادة. ومصادرة الأراضي على نطاق واسع ومنظم. ثم بناء مجتمع مواز منغلق على نفسه، له مؤسساته وقوانينه واقتصاده، يقوم على أنقاض المجتمع الأصلي.

والأخطر تدمير الذاكرة الثقافية والتاريخية للمكان واختراع سردية جديدة تبرر الوجود الجديد.

في هذه الحالة، تتجاوز الآلة الاقتصادية هدف الربح إلى هدف الاستيلاء على الوجود نفسه. والخطاب "التعميري" هنا يصبح أكثر ضراوة: "جئنا إلى أرض بلا شعب لنعمرها".

ثالثًا: الإرث السياسي.. صناعة الدويلات الهشة

لم يكتف المحتل بترك اقتصاد مشوه، بل ترك وراءه هياكل سياسية مصممة للفشل. عند ترسيم الحدود (كما في اتفاقية سايكس-بيكو الشهيرة)، لم يراع أي اعتبارات تاريخية أو ثقافية أو اجتماعية أو اقتصادية للشعوب. كل ما كان يهم هو:

 تقطيع أوصال المنطقة إلى دويلات صغيرة يسهل السيطرة عليها.

  خلق صراعات حدودية وداخلية مستدامة (كمشكلة المياه، المناطق المتنازع عليها) لضمان انشغال هذه الدول ببعضها وبمشاكلها الداخلية، وبالتالي بقائها ضعيفة ومحتاجة دائمًا إلى دعم خارجي.

تركيب أنظمة حكم طائفية أو عرقية (كما في العديد من الدول الأفريقية) أو دعم نخب محلية موالية تخدم مصالحه حتى بعد الرحيل. هكذا، تحولت "الدولة الوطنية" في كثير من الأحيان من إطار للتحرر والاستقلال إلى سجن للهويات وإطار لاستمرار التبعية.

التحرر من التبعية يحتاج إلى وعي جديد

ما حدث بعد رحيل الجيوش الاستعمارية كان في كثير من الأحيان استبدال الاستعمار العسكري المباشر بـ استعمار غير مباشر، عبر التبعية الاقتصادية، والهيمنة السياسية، والاختراق الثقافي.

لذلك، فإن التحرر الحقيقي لا يعني فقط تصحيح المصطلحات، بل يعني تفكيك هذه البنى الاقتصادية والسياسية المشوهة التي خلفها الاستعمار. يعني بناء اقتصاد منتج ومتنوع وقائم على الذات، لا اقتصاد ريعي تابع. يعني بناء أنظمة سياسية تقوم على المواطنة الحقة، لا على الولاءات الطائفية أو القبلية التي ورثناها. يعني، في النهاية، امتلاك إرادتنا وسرديتنا ومشروعنا الحضاري الخاص.

هذه هي المهمة الصعبة التي تواجهنا اليوم: كيف نستعيد وعينا، واقتصادنا، وسيادتنا، من بين براثن إرث استعماري طويل، تمت تسميته، بخبث شديد، "تعميرًا".. يجب أن نعيد النظر في المصطلحات التي نستخدمها، وأن نعيد تعريف تجربتنا بكلماتنا نحن، لا بكلمات من هيمن علينا. لم يكن ما حدث "استعمارًا"، بل كان احتلالاً. لم يكن "تعميرًا"، بل كان تخريبًا ممنهجًا في كثير من الأحيان. لم يكن "تنويرًا"، بل كان استغلالاً ونهبًا للثروات.

إن مهمة المثقف اليوم هي أن يكون حارسًا للذاكرة واللغة. أن يفتح أعيننا على هذه المفاهيم، وأن يقاوم محاولات تزييف الوعي عبر تزييف الكلمات. فلا يكفي أن نطرد المحتل من أرضنا، بل يجب أن نطرده أولاً من عقولنا وكلماتنا.

***

د. عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم