آراء
سامي عبد العال: الاستعارات القاتلة (3)

"الاستعارة الكولونيالية: نقل صفة من طرفٍ إلى طرفٍ آخر بضمانات القوة العنيفة ..."
"وعد بلفور: أعطىَ منْ لا يملك أرضاً مستعارةً إلى منْ لا يستحق ..."
وفقاً لتكوينها الدلالي، لا تخلو الاستعارةُ من وعدٍ ما، طالما أنَّ هناك صفةً ستُعار إلى كيانٍ ليست منه. وعدٌ يُطلق بالتزامن المرجو بين طرفي الصياغة: المستعار له (المشبّه) والمستعار منه (المشبّه به). فلو أوردنا- كما وَعَدَ بلفور- أنّ أرض فلسطين وطن قومي لليهود، فالمعنى يستعير أرض الشعب الأصلي في شكل وطن لطرفٍ مغاير. وكأنَّ الاستعارة تضرب موعداً زمنياً قابلاً للانتظار في مكانٍ آخر. ومن ثمَّ تبدو حالة الاحتلال قريبة الشبه للصورة المقبولة، نظراً لاشتراك الطرفين في سمةٍ ما. هذا التماثل الذي تضمنه النزعة الكولونيالية بصدد اسرائيل عندما تمارس أفعالاً بموجب قدرتها العنيفة على التأثير.
ولكن.. هل ذلك حقيقي بالفعل؟! هل الصفة المشتركة تثبت وضعاً مغايراً لما نعرف داخل فلسطين؟! طبعاً يظل الأمرُ منطوياً على المجازفة بأنْ تحل دلالة الصورة (الصفة المستعارة) على قدر المعاني الكامنة فيها. فالأوطان لا تُستعار كما أنها لا تُشترى. إذن الاستعارةُ هي المُعادل شبه الموضوعي لوعدٍ قيد الاتيان أو الغياب. فالصفة المنقُولة قد تصادف معنى موازياً لها، وقد لا تجد بُداً من عدم الايفاء بالمطلوب.
وهذا هو ما يجعل بعض الاستعارات السياسية صوراً جاهزة لأن تصبح نموذجاً كولونيالياً. بل هي نموذج مؤهل ليجسد نوايا الازاحة التي قد تحدث. فلئن كان الاستعمار اغتصاباً لأرضٍ حرةٍ مع إزاحة الشعب الأصلي، فهذا عمل استعاري بمآرب مقصودةٍ. ونسبة المجاز السياسي خلاله: أنّه يؤكد كيانه المختلق باحثاً عن اتمام الصفقة بأية طريقةٍ كانت. حتى لو اقتضى الشأن إعمال آلة " الابادة الجماعية " كما هو حاصل في فلسطين أو في حالات الاستعمار السابقة. كل استعمار لابد أنْ يكون دموياً عاجلاً أم آجلاً، لا يعقل أن يتشكل الاستعمار من غير بنية قاتلة بالضرورة.
إنَّ الحداثة الغربية منطويةُ على التصميم السياسي المنتهك لسيادة الدول والمجتمعات. فكرة الدولة الغربية امبراطورية أفلتت من قيودها السيادية لتلتهم سيادة الشعوب الأخرى. تتضمن استعاراتها عنفاً لا نهاية له، فهي تنتزع دلالة ما بالقوة المسلحة لتضعها في مكان آخر. وهذا ما يصنع من أية استعارة كولونيالية رسالة سرية بموت الطرف المستعار منه. إذ أنها تأخذ جوهر وجوده تطلعاً لتبديل كيانه الحر.
عندما اعطي آرثر بلفور وعداً لإسرائيل بانشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، فقد منح صفة (مستعارة) لطرفٍ يتطلع لتوطن اليهود. صفة الحضور المستعار في المكان الموعود بصرف النظر عن الواقع. وعمل اليهود على اقتناص الفرصة جرياً وراء المشروع الصهيوني بكافة السبل. فالوطن لا يمتلكه (بلفور) ولا ذاك (اسرائيل)، ولا يحق لكليهما جعل الاستعارة واقعاً. ولكن الضمان هو مرجعية التشابه بين (الغرب واسرائيل) بموجب المركزية الكولونيالية وعلاقتها بالشعب اليهودي.
وهو ما تمت ترجمته في أجيال من الحروب الاسرائيلية حتى اللحظة. ولنلاحظ النبرة الاستعارية الناعمة في نص وعد بلفور. من جانب كون الوطن القومي لليهود مستحضراً كهبة لشعب بلا أرض، ثم الزعم ضمنياً بأنّ هناك أرضاً دون شعب. حتى وإن اعترف الوعد بحقوق السكان الأصليين. فكما أن الوعد بالوطن المنتظر كان صورةً مستعارة من وراء بلدان الأبيض المتوسط، فالحقوق تحولت بدورها إلى استعارات تُمنح أو تمنع. ولعل هذا ما فهمه اليهود خلال الهجرات الأولى تنفيذا لوعد آرثر بلفوز.
الأوطان الحرة لا تُلقى على الطاولة انتظاراً لصفقات الوعود. الأوطان لا تقايض مجاناً تحت شعار (أنتم مساحة وهم مساحة أخرى) عبر الحيز نفسه. ما المقابل الاجمالي بالنسبة لوعد بلفور؟ إنها النزعة الكولونيالية التي تسرق دولاً لتحيلها إلى عدم وتمنحها كهبات إلى عصابات اجرامية تحت مبررات دينية أو سياسية أو انسانية. لقد شكلت الجماعات اليهودية عصب التاريخ المعاصر، ربما لو دارت الأحداث العالمية دورتها الزمنية، فلن يكون هناك حدث واضح مثلما كانت أحداث الاحتلال الصهيوني. حتى لو لم تكن أحداثاً طافية على السطح، فإسرائيل تصنع الكوارث على الصعيد الدولي، سواء أكانت تخالف قانوناً أم تُوقع القوى الكبرى في صدامات مع الشعوب الحرة أم تتلاعب بالهيئات الدولية ضاربة بقراراتها عرض الحائط.
يقول آرثر بلفور في وعدة الاستعاري/ الكولونيالي 2 نوفمبر 1917: " عزيزي اللورد روتشيلد....
يسرني أنْ أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته، التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عرض على الوزارة وأقرته: إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها في سبيل تحقيق هذا الهدف. على أن يفهم جدياً أنه لن يسبب شيئاً من شأنه الانتقاص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الجماعات غير اليهودية المقيمة حالياً في فلسطين. ولا ينتقض من الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى. وسأكون ممتناً وشاكراً إذا ما احطتم الاتحاد الصهيوني علماً بهذا التصريح ... المخلص آرثر بلفور".
وعد المركزية
وعد بلفور مليئ بالمجازات التي تزيف الواقع وتنهب أصولاً ما كانت مكشوفة هكذا إلاّ لحالة كولونيالية تنتهك الحقوق. يتكلم كل من هب ودب (آرثر بلفور) رغم مكانته السياسية المعروفة كوزير لخارجية بريطانيا العظمى. ولكن طالما أنك في مكانةٍ غير مكانتك، فأنت من هب ودب إزاء أصالة الشعوب. بمجرد أن يكتب بلفور كلاماً كهذا ويحدد المخاطّب وباسم جلالة المركزية الأوربية آنذاك، فقد أطلق وعداً قاتلاً. وأدرج نفسه في خانة العداء للإنسانية لا لفلسطين فقط.
كلمات الوعد شن حرب على الشرق الأوسط المتمثل في فلسطين التاريخية. وباسم حكومة جلالته، كان الاستعمار يغطي امبراطورية لا تغيب عنها الشمس. بلفور يعلم أن للأرض شعباً وليست فارغة السكان كما روّج. المركزية الأوروبية قائمة على تفريغ العالم من كل سكانه إلاّ وجودها الخاص فقط. كل مركزية متضخمة لا ترى شيئاً غير إمتداد قوتها المنفلتة. وهذا الأمر بالتكوين التاريخي للحداثة الغربية إنما فتح مجالاً لغزو الدول قبل بلفور وبعده. الفكرة ذاتها مدمرة لا تنتظر وعوداً من هذا الكلام الذي يعد مرسوماً ملكياً بالتهام الآخر.
يهودية الحلم
جاء الوعد كأنه حلم من جانب اليهود المتطلعين لوطن قومي. وذلك على أساس الديانة والحالة التي كانوا يعيشونها في أوروبا. وبالوقت نفسه غدا الوعد قراراً من قبل الامبراطورية البريطانية. بجانب الاستعمار فإن ما يعتبره اليهود حلماً كان واقعاً ينتهك كل الحقائق الأخرى. وهذا يلخص حالة أوروباً في فترات الاستعمار المباشر للشعوب. وقد زفّ بلفور الوعد بلغة المسرة والسعادة كاشفاً عن تعاسة كبيرة عند اليهود. وهي نبرة التعاطف التي تستحضر نغمة الاستمالة والتماشي مع الحلم. متناسياً أن الخبر السعيد ذاته سيأكل وطناً لصالح شعب يهودي بلا هوية سياسية.
يتحدث بلفور بمنطق استعارة القوة ملتمساً إياها من قداسة الامبراطورية. ما الذي يجعل وزير خارجية يطلق وعداً خارج نطاق دولته؟ لقد تحين الفرصة لتبشير اليهود بالوطن الفلسطيني المغتصب. أخذ يبشر بجريمة كاملة الأركان. وأتى بالأرض مجاناً دون أي ثمن لا من وطنه الأم (بريطانيا) ولا من أوطان الشعوب الحية. الثمن كل الثمن هو ضياع الوطن المنكوب بسبب الاستعمار. وكأن بلفور يقول إن حلم اليهود هو مواصلة الاغتصاب الكولونيالي باسم بريطانيا العظمى. أي لابد أن يتحقق الحلم على جثة الفلسطينيين. من أول عبارة في الوعد، تفوح رائحة الدم والاحتلال القميء. حيث عرض الأمنية اليهودية على الوزارة البريطانية واقرته، لدرجة أن الاقرار هو قرار حرب حتى النهاية دون إذن أية قوى أخرى. ماذا لو لم تكن هناك مقاومة لهذا الاستعمار؟ ببساطة سيكون الحلم اليهودي كابوساً صهيونياً لأصحاب الأرض. لم يحلم اليهود مثل كافة الكائنات البشرية، لكنهم يستغرقون في تهويد الأحلام. استيطان الأحلام على غرار استيطان الأراضي الفلسطينية.
ليس الحلم السابق آتياً في منامات أحدهم، بل كان مغموساً في بئر التآمر الذي لا ينضب. اليهود تاريخياً كانوا يحلمون على خاصرة القوى العظمى. أجادوا إلى درجة الاتقان ترويض هذه القوى وخدمتها من أجل مصالحهم. يذرفون الاحلام بين أيديها في شكل أمنيات ثم سرعان مما تصبح حروباً وجرائم ضد الإنسانية لاحقاً.
وطن مسروق
يقرر وعد بلفور سرقة وطن لليهود لا شيء آخر. والمفترض أنه جاء بصيغة الوعد promise.. أي قد يصدق أو لا يصدق. ولكنه منذ البداية يقطع باغتصاب الأرض الفلسطينية ولا يترك مساحة لتجنب تطبيقه. الوعد جاء فرماناً ملكياً كولونيالياً لا أقل. وعندما يصرح الوعد بأن حقوق السكان الأصليين مصونة، فإنه يجزم بضياعها. ومن حيث يؤكد الحفاظ على الحقوق يأمر ضمنياً بانتهاكها، نظراً لأنه ازاحة استعارية مدمرة، فكيف يدعو من أخذ حقاً ليس حقه أن يحافظ على حقوق الغير؟!
يعلم بلفور تمام العلم أن السياسة الاستعمارية ستسبب مشكلة لا حل لها. لأن منطق الاستعارات الموجودة في وعده تخرج عن بلاغة الخطاب. تعلن التعبير عن مضمونها بالقوة الحربية وتصمم على تحقيق الهدف. ولذلك أراد تعميد كلماته لدى الصهيونية العالمية بإبلاغها ما تريده الامبراطورية البريطانية. بحيث يصل الوعد إلى حبكة صراعية لا تحل. لأن الرصاصة قد خرجت بالفعل واستقرت في قلب فلسطين. واليهود– في أي مكان- يتربصون بالفرص حتى تصبح صفقات واقعية.
إن الامنية لا تأتي جزافاً، وبخاصة أمام امبراطورية تحقق هذه الامنيات. إنها ثقافة الأب الكولونيالي القادر على عمل أي شيء من أجل تابعيه. لقد كانت ثمة جهود صهيونية لإطلاق الوعد من أكبر قوة آنذاك.
تجمع الشتات
ورد بالوعد تعبير سابق لأوانه ولا حق عن أصله هو تعبير (الشعب اليهودي Jewish people). جاء بصدد أن فلسطين ستكون مكاناً لهذا الشعب. وليست كلمة الشعب إلاَّ كلمة عبرانية تنسب إلى بني اسرائيل الأوائل. شعب الرب كانت جذر التعبير عن الجماعات اليهودية التي تتدين بالمعتقدات المسيّسة. وهي جماعات مشتتة هنا أو هناك في أرجاء العالم، ولم تكن شعباً بمعناه التوراتي ولا بمدلوله الحديث. آرثر بلفور قطع المسافة بين الجذور التوراتية لفكرة الشعب وبين فكرة المواطنين لدى الحداثة الغربية. لم يكن يعرف أن الحداثة لا تقبل شعباً بمعناه الديني حتى يستدعي رصيد التعبير من التاريخ التوراتي. ولم يستطع زحزحة الفكرة الاستعمارية حتى تدخل اسرائيل فضاء القانون والمشروعية.
إن اطلاق تعبير الشعب اليهودي على الجماعات الصهيونية هو العمل الذي اغتنم الفرصة. فلا الصهيونية سياسة ولا الشعب اليهودي مواطنين كما يزعم الوعد. وفوق ذلك يضفي عليهم بلفور صفات قومية خالصة. وكأن اليهود ينتمون إلى جنسية ذات معالم واضحة ومميزة. إن انثربولوجيا اليهود تثبت كونهم من أجناس مختلفة وأعراق متباينة.
إضافة إلى ذلك، يمرر بلفور تعبير الشعب اليهودي كأنه مصطلح مستقر. وهذا دليل على كون الوعد أكبر من مجرد نص لغوي، هو خريطة يعرف صاحبها كيف يعطي المتابع ما يريد. أي يدرك بلفور كيف يصوغ لليهود ما يريدون فعله في فلسطين، مشاركة اليهود من كافة أنحاء العالم في سرقة هذه الدولة. لقد استمرت فلسطين موطناً موعوداً بهذا المعنى لكل يهودي يرى في ديانته القومية المطلوبة. وما زالت الهجرات اليهودية إلى أرض الميعاد مستمرة بهذا الجذر الذي فك شفرته وعد بلفور.
مصطلح (الشعب اليهودي) إعلان فصل عنصري وتمييز عرقي بالتبعية. فليست هناك مساحة لأي استقلال للشعب الفلسطيني. بل استعمل بلفور مصطلح الجماعات غير اليهودية non–Jewish communities عندما وصف أصحاب الأرض. لقد نزع الشرعية عن أصحاب الأرض وشتت الفلسطينيين مقابل توحيد الشعب اليهودي.
***
د. سامي عبد العال