قراءة في كتاب
علي الطائي: قراءة انطباعية في كتاب أفكار في دهاليز الذاكرة

للكاتبة سعاد محمد الناصر
حين بدأت أقرأ كتاب أفكار في دهاليز الذاكرة للكاتبة سعاد محمد الناصر شعرت أنني أمام نصوص مختلفة عمّا اعتدته من كتب، فهي ليست رواية بأحداث مترابطة ولا سيرة ذاتية تحكي حياة كاملة، بل هي أشبه بصفحات من دفتر شخصي كتبت فيه الكاتبة ما يخطر في بالها من مشاعر وتأملات وأفكار. منذ البداية تقول إن الأفكار في الذاكرة لا تمشـي في خط مستقيم، بل تتناثر مثل أطياف سريعة، تحمل أثر اللحظة وصوت الشعور، وكأنها تعلن للقارئ أن ما سيجده هنا ليس نظامًا صارمًا، بل شذرات صادقة خرجت من القلب.
الكتاب كله قائم على هذه الفكرة: أن الحياة ليست قصة متسلسلة تبدأ من نقطة وتنتهي بأخرى، بل هي محطات متفرقة، نتوقف عندها ونلتقط منها ما نشاء. تقول المؤلفة إن ما تكتبه ليس سيرة طويلة بل مجرد محطات على طريق روحي، وفي هذا ما يفتح المجال لكل قارئ أن يجد نفسه بين السطور، لأن المحطات هنا تشبه محطاتنا جميعًا: حزن، فرح، انتظار، أمل، وانكسار.
اللغة التي استخدمتها الكاتبة بسيطة قريبة، لكنها في الوقت نفسه عميقة وصادقة، فهي تكتب وكأنها تبوح لصديق يجلس بقربها. في أحد المواضع تكتب أن مشاعرها كثيرًا ما تضغط عليها، لكن الكتابة تفتح لها أبواب الانتصار، وهنا يفهم القارئ أن النصوص لم تُكتب من أجل الأدب فقط، بل من أجل النجاة. الكتابة بالنسبة لها وسيلة لمواجهة ثقل الذاكرة، طريق يجعلها أقدر على احتمال الحزن ومواصلة الحياة.
وتظهر براعة الكاتبة في تحويل التفاصيل اليومية إلى إشارات مليئة بالمعنى. فهي تصف فنجان قهوة في صباح شاحب وكأنه نافذة صغيرة على حياة أكبر، وهذه الصورة البسيطة تقول الكثير عن قدرة الإنسان على أن يرى في الأشياء الصغيرة ما يعيد له الأمل. وهكذا يكشف الكتاب أن المعنى الحقيقي لا يوجد في الأحداث الكبيرة فقط، بل في أبسط لحظاتنا التي نمر بها كل يوم.
ولا يقف النص عند حدود التجربة الفردية، بل يتجاوزها أحيانًا ليصف ما حولنا من واقع. فهي تتحدث عن الشوارع المزدحمة والمليئة بالنفايات، ثم تلمّح إلى أن ما في الخارج ليس سوى انعكاس لما نحمله في الداخل، وأن تنظيف القلب قد يكون بداية لتنظيف الطريق. بهذه اللمسة البسيطة تربط الكاتبة بين الفرد والمجتمع، بين الداخل والخارج، وتذكّر القارئ أن التغيير يبدأ دائمًا من الذات.
وأنا أقرأ لم أشعر أنني مجرد متلقٍ، بل أحسست أنني شريك في هذه التجربة. كل نص أيقظ في داخلي شيئًا ما: ذكرى قديمة، أو سؤالًا مؤجّلًا، أو رغبة في النظر إلى حياتي بطريقة أخرى. وهذا ما يجعل الكتاب قريبًا من القارئ، لأنه لا يقدم أجوبة جاهزة، بل يفتح أبوابًا للأسئلة.
الذاكرة هنا تظهر مثل دهليز طويل، فيه أماكن مظلمة وأخرى مضيئة. أحيانًا تكون الذاكرة عبئًا يؤلم صاحبه، وأحيانًا تتحول إلى طريق للرجاء والخلاص. وهذا التناقض جزء من جمال النصوص، فهي لا تنكر الألم لكنها في الوقت نفسه تبحث عن فسحة ضوء داخله.
وحين أنهيت الكتاب شعرت أنني لم أغادر دهاليز الذاكرة حقًا، بل أصبحت جزءًا منها. النصوص تركت في داخلي صدى مدوياً: بعضها جعلني حزينًا، وبعضها منحني طمأنينة، وبعضها علّمني أن أنظر للحياة من زاوية جديدة. والشيء الأجمل أنني لم أشعر وحدي، بل أحسست أن هناك من يكتب تجربته ليشاركني بها، وأن هذه المشاركة وحدها كافية لأن تخفف من ثقل الدهاليز.
إن كتاب أفكار في دهاليز الذاكرة عمل بسيط في لغته، عميق في أثره، لا يقدّم نفسه كعمل كبير مكتمل، بل كأصوات متناثرة، لكن هذه الأصوات حين تجتمع تترك في القارئ إحساسًا صادقًا وقويًا. إنه كتاب للبوح والتأمل، كتاب يجد فيه كل قارئ مرآة صغيرة لنفسه، وربما نافذة على حياة أوسع.
***
بقلم: د. علي الطائي