آراء

الحسين بوخرطة: الاستهلاك والتشغيل ودخل الأسر في ظل العولمة

حالة المغرب وإعادة مساءلة النموذج النيوليبرالي

في سياق العولمة المعاصرة، أضحى الاستهلاك أحد الأعمدة الأساسية التي تقوم عليها الاقتصادات الوطنية، باعتباره محركًا رئيسًا للنمو الاقتصادي، ومحددًا لاتجاهات الإنتاج، ومؤثرًا مباشرًا في اختيارات السياسات العمومية. غير أن هذه الدينامية الاستهلاكية لا يمكن مقاربتها بمعزل عن متغيرين بنيويين حاسمين، هما التشغيل ودخل الأسر، باعتبارهما الشرط الموضوعي للقدرة الفعلية على الاستهلاك وضمان استدامته.

وتُعدّ التجربة المغربية، في ظل اندماجها المتزايد في الاقتصاد العالمي، نموذجًا دالًا على ما تتيحه العولمة من فرص، كما تكشف في الآن ذاته حدود النموذج النيوليبرالي المهيمن، خاصة حين يتعلق الأمر بتوزيع ثمار النمو، وضمان الشغل اللائق، وتحقيق العدالة الاجتماعية والمجالية.

العولمة، الدولة، وتحولات النموذج الليبرالي

لم يعد النقاش الإيديولوجي حول الملكية العامة لوسائل الإنتاج يحتل الصدارة كما كان عليه إبّان الحرب الباردة، غير أن اشتداد صراعات القوى الدولية وسعيها المحموم للحفاظ على مواقع الريادة في قيادة الاقتصاد العالمي، دفع عمليًا المنظومة الليبرالية إلى التخلي الجزئي عن بعض مسلّماتها. فقد عادت الدولة بقوة، اقتصاديًا وعسكريًا، عبر تدخلات مباشرة لدعم تنافسية الاقتصادات الكبرى، وتأمين سلاسل التوريد، وحماية الصناعات الاستراتيجية.

وقد فتح منطق التدافع الجيو-استراتيجي الباب واسعًا أمام مفاوضات معقدة بين الشرق والغرب، في سياقات استُخدمت فيها الحروب والنزاعات كوسائل ضغط، حيث لم يعد السلم غاية إنسانية خالصة، بل أداة للتفاوض حول المصالح الاقتصادية والسياسية، وإعادة توزيع موازين القوة عالميًا.

المغرب: إصلاحات سياسية ونمو اقتصادي دون أثر اجتماعي كافٍ

استثمر المغرب، بوعي مبكر بتحولات النظام الدولي، إمكانياته المؤسساتية للحسم النسبي في عدد من المعضلات السياسية منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، مما أتاح له هامشًا أوسع للتركيز على الإصلاحات الاقتصادية وجعل الدولة فاعلًا مركزيًا في قيادة التغيير. غير أن النتائج المتراكمة، رغم أهميتها على مستوى المؤشرات الماكرو-اقتصادية، ظلت دون انتظارات الفئات العريضة من المجتمع.

فالشباب، على وجه الخصوص، لم يعد يرى في السوق الوطنية أفقًا حقيقيًا للإدماج الاجتماعي، إذ أضحى حلم الهجرة نحو الغرب خيارًا شبه جماعي. كما أن فرص الشغل التي يتيحها القطاع الخاص، في كثير من الحالات، تظل ضعيفة الجاذبية، وغير مشجعة على الاستقرار المهني، في ظل مستويات أجور لا تتناسب مع المؤهلات التكوينية ولا مع متطلبات العيش الكريم.

وفي هذا السياق، يبرز في المغرب سؤال مركزي: إلى أي حد يستطيع نموذج التنمية القائم، في ظل العولمة، ضمان توازن فعلي بين الاستهلاك، التشغيل، والعدالة الاجتماعية والمجالية؟

أولًا: الاستهلاك في الاقتصاد المغربي المنفتح على العولمة

يشكل استهلاك الأسر في المغرب، كما هو الحال في معظم دول العالم، مكوّنًا رئيسًا من مكونات الطلب الكلي، ومحركًا أساسيًا للنمو الاقتصادي. وقد ساهم الانفتاح التدريجي للاقتصاد المغربي، منذ برامج التقويم الهيكلي في ثمانينيات القرن الماضي، وتعزيزه لاحقًا عبر اتفاقيات التبادل الحر مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والدول الإفريقية، في:

- توسيع عرض السلع والخدمات،

- الانخفاض النسبي لأسعار بعض المنتجات،

- إدماج المغرب في سلاسل القيمة العالمية.

كما أفرز هذا الانفتاح قطاعات إنتاجية موجهة نحو التصدير، مثل صناعة السيارات والطيران والفلاحة والنسيج، ما ساهم في خلق الثروة وتحسين بعض المؤشرات الاقتصادية. غير أن هذه الدينامية ظلت محدودة الأثر اجتماعيًا، بسبب ضعف آليات إعادة التوزيع، واستمرار إقصاء فئات واسعة، خاصة من الشباب، من الاندماج الفعلي في سوق الشغل.

ثانيًا: التشغيل ودخل الأسر والإكراهات البنيوية

رغم التحسن النسبي لبعض المؤشرات الاقتصادية الكلية، لا يزال المغرب يواجه اختلالات عميقة في مجال التشغيل ومستوى الدخل. فمعدلات البطالة، خصوصًا في صفوف الشباب وحاملي الشهادات وفي الوسط الحضري، تظل مرتفعة، في حين يستوعب القطاع غير المهيكل نسبة كبيرة من الساكنة النشيطة، في ظروف تتسم بالهشاشة وانعدام الحماية الاجتماعية.

وقد أفرز مسار العولمة بالمغرب مجموعة من الإكراهات، من أبرزها:

- هشاشة مناصب الشغل المرتبطة بالقطاعات التصديرية،

- الضغط على الأجور باسم التنافسية،

- ضعف تطور القدرة الشرائية لشريحة واسعة من الأسر،

- محدودية انفتاح مؤسسات التكوين العمومي على متطلبات الشعب العلمية والتكنولوجية الواعدة،

- ارتفاع كلفة التكوين الجيد، خاصة في المهن الذكية،

- ضعف أداء بنيات التنشئة الترابية في ترسيخ ثقافة الابتكار والميولات الفنية والتكنولوجية،

- البطء في الانتقال نحو وسائل الأداء الرقمية والتجارة الإلكترونية.

وبفعل هذه الاختلالات، أصبح الاستهلاك الداخلي يعتمد بشكل متزايد على آليات تعويضية، كالدعم الاجتماعي، أو المديونية، أو التضامن العائلي، ما يعكس هشاشة النموذج الاقتصادي المعتمد.

ثالثًا: العلاقات الاقتصادية الدولية بين الانفتاح والتبعية

اختار المغرب الانفتاح الاقتصادي كخيار استراتيجي لتعزيز جاذبيته للاستثمار الأجنبي المباشر وتحسين تنافسيته. وقد مكّنته شراكاته الاقتصادية، خاصة مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والدول الإفريقية، من:

- استقطاب الشركات متعددة الجنسيات،

- تحقيق نقل جزئي للتكنولوجيا، غالبًا في بعدها التطبيقي دون تمكين فعلي من تطويرها محليًا،

- رفع حجم الصادرات وجلب العملة الصعبة،

غير أن الاستفادة من هذه الفرص ظلت محكومة بمنطق فئوي. في المقابل، تعمقت تبعية الاقتصاد المغربي للأسواق الخارجية، مما جعله أكثر عرضة للتقلبات الدولية، كما فرضت المنافسة العالمية ضغطًا كبيرًا على المقاولات الوطنية، وحدّت من قدرتها على توفير شغل مستقر ولائق.

رابعًا: تشبع المبادئ النيوليبرالية وبوادر التحول

شكّل النموذج النيوليبرالي، القائم على تحرير الأسواق والخصخصة وتقليص دور الدولة بدون تنمية قدرة القطاع الخاص بشكل كاف على تعويض انسحابها من المجالات الحيوية، الإطار المرجعي للسياسات الاقتصادية بالمغرب لعقود. غير أن مؤشرات متعددة تدل اليوم على بداية مراجعة تدريجية لهذا النموذج، من خلال:

- عودة الدولة بقوة عبر مشاريع كبرى للبنيات التحتية،

- تدخلات مؤسساتية لحماية الاقتصاد الوطني،

- تبني سياسات صناعية موجهة،

- رفع شعار تعميم الحماية الاجتماعية والصحية،

- تنامي الشعور بنوع من الإحباط واليأس لدى الفئات النشيطة،

- تفشي اختلالات في برامج الإدماج المهني والتكوين بالتناوب.

وتعكس هذه التحولات إدراكًا متزايدًا بأن آليات السوق وحدها غير كافية لتحقيق التنمية الشاملة والعدالة الاجتماعية.

خاتمة

تُبرز التجربة المغربية أن العولمة، رغم ما تتيحه من فرص للنمو والاندماج الاقتصادي، تكشف في الوقت نفسه حدود النموذج النيوليبرالي، خاصة في ما يتعلق بالتشغيل ومستوى دخل الأسر. فرغم مركزية الاستهلاك في الاقتصاد الوطني، تظل قدرته محدودة بفعل هشاشة الشغل وضعف القدرة الشرائية لشرائح واسعة من المجتمع.

وعليه، يمكن القول إن العولمة في صيغتها النيوليبرالية الكلاسيكية بلغت درجة من التشبع، ما يفرض إعادة التفكير في نموذج تنموي أكثر توازنًا، يزاوج بين الانفتاح الاقتصادي ودور الدولة في التنظيم والتوزيع العادل للثروة، ويضع الإنسان في صلب المشروع التنموي.

***

الحسين بوخرطة

في المثقف اليوم