قضايا

سجاد مصطفى: الاحتباس الحضاري.. آليات الانغلاق المعرفي واختناق التحوّل التاريخي

مقدمة: ليس الاحتباس الحضاري مجازًا بيئيًا يُستعار لوصف أزمة ثقافية، بل هو توصيف واقعي لحالة انسداد حاد في الديناميات العقلية والاجتماعية التي يُفترض بها أن تُنتج تحولًا تاريخيًا. نحن لا نعاني من تأخر في النمو، بل من انقطاع في الوظيفة التاريخية للعقل العربي، ذلك العقل الذي أصبح أسيرًا لثلاثية مدمّرة: الجمود المعرفي، التعطيل الأخلاقي، والانحدار السلوكي.

أولًا: الجهل المُمَأسس وانهيار البنية المفهومية

الجهل في السياق العربي لا يُفهم بوصفه غيابًا للمعرفة، بل هو منظومة معرفية قائمة بذاتها، تقوم على تكريس آليات الإدراك الجاهز، وترفض مساءلة البديهيات. إن أخطر ما نواجهه ليس الفقر في المعلومات، بل الشلل في إنتاج المفاهيم، مما يجعل العقل العربي يعيش على هوامش الحضارة دون أن يمتلك أدوات الدخول فيها.

يقول المفكر العراقي الدكتور فالح عبد الجبار: المجتمع الذي لا ينتج مفاهيمه، لا يستطيع أن يُنتج تاريخه.

في هذا الإطار أُبيّن: العقل الذي لا يسأل، لا يجهل لأنه لا يعرف، بل يجهل لأنه لا يعترف بعدم المعرفة، وهذه هي أمُّ الجهالات.

ثانيًا: تحلل منظومة القيم وتحول الأخلاق إلى آلية للضبط

لا يُقاس تراجع المجتمعات فقط بانهيار مؤسساتها السياسية أو الاقتصادية، بل بفقدانها لمعايير التمييز الأخلاقي بين الفعل الصحيح والفعل النافع للسلطة. الأخلاق هنا لم تعد نابعة من العقل الجمعي، بل من شروط الضبط الاجتماعي. ومع انتشار الرياء والقيم الانتهازية، أصبحت الأخلاق أداة تزيينية تخدم الاستقرار، لا التجاوز.

 يشير الدكتور علي الوردي إلى هذه الأزمة بقوله: العقل البشري يُصاب بالجمود حين يضع الأخلاق في قوالب لا يجوز المساس بها، ويجعلها غاية لا وسيلة.

 أقول: حين تُغلق الأخلاق باب السؤال وتفتح باب التبرير، تتحول من وازع داخلي إلى آلية تسكين لضمير جماعي ميت.

ثالثًا: البنية العقلية الطاردة للنقد

المجتمعات التي تُقصي النقد هي مجتمعات تُقصي العقل نفسه. فنحن لا نعاني من نقص في النخب، بل من بنية ذهنية شمولية تُقصي أي خطاب تفكيكي وتُعلي من التلقين والتبجيل. العقل الناقد في السياق العربي يُصنَّف ضمن خانة الوقاحة الفكرية، لا ضمن ضرورات البناء المعرفي.

يقول الفيلسوف العراقي ياسين خليل: أخطر ما نواجهه ليس الاستبداد السياسي، بل الاستبداد المعرفي الذي يُنتج عقولًا لا ترى إلا ما يُراد لها أن ترى.

 أقول: من لم يتعلّم كيف يزعج يقين جماعته، لن يُنتج فكرة تُزعزع العالم.

لقد أنتج هذا المسار ما يمكن تسميته بـ الغباء البنيوي، وهو ليس سلوكًا فرديًا، بل نظام إدراك يُعيد إنتاج الرداءة، ويرفض تعقيد المسائل، ويُبسط القضايا الفكرية إلى ثنائيات مريحة لا تستدعي التفكير.

رابعًا: لماذا لا نتغير؟ تشريح علّة الاحتباس الحضاري

إن مجتمعاتنا تفتقر إلى ما يسميه علماء الاجتماع بالبنية القادرة على التعلّم الذاتي، أي تلك التي تخلق نقدًا دوريًا لمفاهيمها، وتعيد ضبط أدواتها الفكرية وفقًا لمتغيرات العصر. هذا الغياب هو الذي يؤدي إلى ما نصطلح عليه بالاحتباس الحضاري، حيث تصبح الثقافة عبئًا على المستقبل بدل أن تكون جسرًا نحوه.

 يقول الدكتور حسن العلوي: العرب لا يكرهون الماضي، بل يسكنونه.. يعيشونه كأنه الحاضر، ويُعلّقون عليه فشلهم في المستقبل.

أقول: لسنا متأخرين زمنيًا، نحن متأخرون مفهوميًا، فزمننا يُستهلك دون أن يُهضم، والتاريخ لا ينتظر عقولًا تعيش في تكرار ذاتها.

خامسًا: تفكيك الاحتباس… ليس دعوة للإصلاح، بل للقطيعة

إن معالجة الاحتباس الحضاري لا تتم عبر دعوات إصلاح سطحي، بل تتطلّب قطيعة معرفية صارمة مع المنظومات القائمة:

قطيعة مع التعليم التلقيني الذي ينتج العجز.

قطيعة مع الخطاب الديني الشمولي الذي يحرّم التفكير.

قطيعة مع السلطة السياسية التي تُقصي العقل لحماية استبدادها.

وقطيعة مع المثقف الذي تحوّل إلى موظف في بلاط النفاق الجمعي.

 أقول: العقل الذي لا ينتج شروط نجاته، يستحق الانقراض؛ والوعي الذي لا يملك شجاعة القطيعة، لن يلد تاريخًا.

خاتمة

نحن لا نعيش في عصر الانحطاط، بل في عصر الإنكار المنهجي لهذا الانحطاط. الاحتباس الحضاري ليس مجرد خلل، بل هو إعلان عن نهاية مرحلة تاريخية فاشلة لم تتمكن من بناء ذاتها أو نقد نفسها.

وهنا يكون السؤال الأخلاقي والفلسفي معًا:

هل ما زال بالإمكان بناء تحوّل حقيقي دون أن نمارس خيانة فكرية تجاه ما نحن عليه؟

 في هذا السياق أُبيّن: لن نولد من رمادنا، إلا حين نحرق أوهامنا أولًا؛ فمن دون خيانة ذواتنا القديمة، لا معنى لأي ولادة فكرية.

الجواب ليس في الحنين، ولا في الرغبة، بل في امتلاك الجرأة على تسمية الأشياء بأسمائها، وتحطيم الأوثان الذهنية التي قيدت الوعي العربي لأكثر من قرن.

***

الكاتب سجاد مصطفى حمود

 

في المثقف اليوم