قضايا
رمضان بن رمضان: دور النبوة في دخول العرب التاريخ

في الذكرى الرابعة لوفاة المفكر والمؤرخ التونسي هشام جعيط قراءة في فكره
مقدمة: يذهب بعض المفكرين إلى أن أعمال هشام جعيط (1935- 2021) حول الإسلام المبكر قد وضعت حدا للمنجز الإستشراقي الذي إهتم بهذه المرحلة من تاريخ الإسلام وأغلقت قوسا من "المعرفة " التاريخية وفتحت آفاقا جديدة لأعمال مختلفة حول " الإسلام المبكر " بأدوات معرفية تستنطق المصادر القديمة وتميز غثها من سمينها بعين ناقدة وبصيرة ثاقبة، فتعيد كتابة تاريخنا برؤية موضوعية بعيدة عن القراءات التمجيدية من ناحية، وعن تلك التي لا ترى فيما حدث إلا إستنساخا أو إنتحالا لتراثات سابقة. يقول هشام جعيط في حوار مع الكاتبة حياة السايب نشر في موقع " ثقافات ": " أعتقد أن المستشرقين في الفترة التي كتبت فيها لم يكونوا متمكنين من علم التاريخ... و ليس لهم تكوين تاريخي نقدي حقيقي كانت كتاباتهم سردية وتطغى عليها أحكام مسبقة وإعتبارات خارج الحقل العلمي وهي مسكونة بفرض تفوق الغرب على الشرق الإسلامي ويمكن القول من خلال ثلاثيتي حول السيرة المحمدية إن الإستشراق قد إنتهى على يد أحد الشرقيين المسلمين. "(1)
1 – العرب والنبوة:
إن إستقراء إبن خلدون، المتوفى سنة 818 هج / 1406 م لتاريخ العرب قد أوصله إلى خلاصات عامة سيتكفل علم التاريخ بالبحث فيها تمحيصا وتدقيقا وإعادة قراءة للمصادر التي وصلتنا والتي تتحدث عن تلك الفترة، فهي تقتضي نظرا وتحقيقا على حد عبارته، إن إنتقال العرب من الوثنية إلى التوحيد مثل فيه الدين / النبوة " طقوس عبور " من التوحش والبداوة اللتين إتسمت بهما حالة العرب قبل الإسلام أو ما يعرف بالجاهلية وهو مصطلح مشحون بمسحة أخلاقوية، إلى حالة التمدن والتأنس. إنها طقوس ستترك بصمات لا تنمحي في ذهنية العرب وفي رؤاهم وتصوراتهم إنها بمثابة الوسم الذي إنطبعت به أخلاقهم وسلوكهم. يقول إبن خلدون في الفصل السابع والعشرين من الباب الثاني، في أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة. ويشرح إبن خلدون ذلك بقوله: " والسبب في ذلك أنهم لخلق التوحش الذي فيهم أصعب الأمم إنقيادا بعضهم لبعض للغلظة والأنفة وبعد الهمة والمنافسة في الرياسة، فقلما تجتمع أهواؤهم، فإذا كان الدين بالنبوة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم وذهب خلق الكبر والمنافسة منهم فسهل إنقيادهم (... ) فإذا كان فيهم النبي أو الولي الذي يبعثهم على القيام بأمر الله ويذهب عنهم مذمومات الأخلاق ويأخذهم بمحمودها ويؤلف كلمتهم لإظهار الحق ثم إجتماعهم، حصل لهم التغلب والملك. " (2) إن الإنتقال بالعرب من حالة التذرر القبلي والإنقسام والتناحر والتحارب ومن حالة الغلظة والأنفة والكبر والتفاخر بالأنساب إلى حالة اللين وسهولة الإنقياد والإجتماع والتآلف يحتاج إلى رجة قوية تخلخل ما إستقر في تلك البنى القبلية من أعراف وتقاليد وتفتح أمامهم رؤى جديدة حول الإنسان والوجود وحول الشعوب المجاورة لهم. يؤكد هشام جعيط في سرديته لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم على الإنتماء العربي للرسول وأنه من قبيلة قريش وعلى أنه ولد في مكة وهو بذلك يرد على المستشرقة باتريشيا كرون (1945 – 2015) التي شكت في إنتساب محمد إلى قريش وفي صحة نسبه وتعتبره من وسط الجزيرة العربية وليس من مكة. (3) يدقق هشام جعيط في كل المرويات والمصادر القديمة من إبن إسحاق إلى إبن هشام إلى البلاذري ولاسيما المرويات المتصلة بالنبي، يورد مختلف الروايات ثم ينقدها ويضرب بعضها ببعض معتمدا في ذلك على معرفة دقيقة بعلم التاريخ وعلى إطلاع واسع بالآنتروبولوجيا الثقافية وبعلم الإجتماع ومستندا على النص القرآني كمصدر رئيسي لنحت صورة للرسول صلى الله عليه وسلم. إنه يعمد إلى ترجيح بعض الروايات على أخرى محكوما في ذلك بنزعة علمية تبحث عن حقيقة ما حدث، بعيدا عن تصورات المستشرقين وعن خلفياتهم التي أثرت كثيرا في ما كتبوه حول التاريخ الإسلامي وسيرة الرسول وكذلك بعيدا عما إستقر في الضمير الجمعي الإسلامي من تصورات إرتقت إلى درجة البديهيات. يعتبر هشام جعيط النبوة بالحدث الجلل وأنها لا ليست بالأمر العادي الذي يتكرر حدوثه، وأن الشعوب التي تحظى بهذا " التكريم " يمكن أن يكون لها شأن عظيم. إنها حدث فارق في تاريخها في كل أبعاده وتكون شخصية النبي محورية في هذا المسار. فإضافة إلى الإصطفاء الذي آختص به شخص النبي لمؤهلات ذاتية تمتع بها، ولمسار ذاتي لعبت فيه ظروف تاريخية دورا في تبوئته هذا الدور، كان للنبوة دعائم أخرى، لقد صاحبت النبوة خلخلة للبناء اللغوي تكفل القرآن الكريم بإحداثها، يقول هشام جعيط: " فالقرآن إبتدع أيضا معجمه وهذا أمر عظيم وهو الذي خلق التجريد المفاهيمي في لغة لم تكن تعرف إلا الحسي كما في الشعر. " (4) لقد هيأ القرآن الأرضية الفكرية للعرب حتى يتلقوا حدث النبوة بآعتباره بوابة لدخول التاريخ، وقد أدرك جعيط ذلك بحسه التاريخي حين إعتبر أن تحولا معجميا في لغة هو تعبير عن تطور ذهني عام في الثقافة ومن وراء ذلك عن تطور في بنى الحضارة كما لدى اليونان وغيرهم. (5) إن القرآن الذي نزل بلسان عربي مبين، كان مفهوما بالضرورة من العرب، رغم ذلك يؤكد جعيط أننا لم نكن نعرف أفكار العرب وجدالاتهم إلا من خلال القرآن وحسب رأيه فإن السور الوسطى هي التي كانت صعبة الفهم بالنسبة إلى للقرشيين لأنها كانت تحوي مفردات مجردة، وحتى السور الأولى تحوي مفردات خاصة وجديدة ومبتدعة كالنار والجنة وجهنم، ... لقد إستطاعت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم تثوير الوعي العربي إنطلاقا من اللغة مسنودة بالوحي، يقول جعيط متحدثا عن مئات الكلمات الجديدة: " وإنما إخترقت اللغة والضمائر عبر أربعة عشر قرنا من الحضور والتعمق في الحضور، بل كونت المعجم اليومي للعرب المسلمين في الحضارة التي ستنبني. (6) يطرح القرآن مشكل اللغة في كل أبعاده ويتبنى جعيط رأي المستشرق الألماني يوليوس فلهاوزن (1844 – 1918) الذي يرى أنه يشهد على قوة اللغة وسيطرتها على الفكر، لكن العكس صحيح أيضا وهو سيطرة الفكر على اللغة وتطويعه لها. فالقرآن خلق مفردات من الجذور العربية لكن إنبلاجه في هذه الفترة دون سواها، كان بسبب أن اللغة وصلت إلى حد كبير من النضج والغنى ومن هنا إزدهار التعبير الفني في الشعر. والقرآن تعبير فني بأعلى درجة. يهتم جعيط في رسم ملامح تاريخ نشوء الإسلام بالديالكتيك: الأنا / المجتمع والفرد / الوسط، ويطرح تساؤله ما هو قسط محمد – وهو كبير – وما هو قسط العالم الذي ولد فيه؟ في آخر المطاف، السؤال المحير هو التالي: كيف كان محمد ممكنا في ذلك الزمان وفي تلك الساحة من وجهة الأفكار ومن وجهة التعبير ومن وجهة الإرادة المستميتة؟(7)
– النبوة في التاريخ
ملامح الوضع الجغراسياسي في شبه الجزيرة قبل البعثة:أدرك هشام جعيط أهمية المدن في صناعة التاريخ لأنها المدخل الوحيد لمحاصرة البداوة وتحجيم دورها ولاسيما في شبه الجزيرة الوسطى. فهذه القطعة من الأرض المحاصرة بين الشمال – سورية - ومدنه مثل العلا والحجر والبتراء وبصرى وبين الجنوب – اليمن – حيث سبأ وشبوا وتمنع وظفار ونجران. عشية ظهور الإسلام كانت المدينة هي السائدة في المجال التاريخي، بينما كانت البداوة هي المهيمنة في المجال الأنتروبولوجي. لقد كان الجمهور الأعظم من العرب لا يزال خاضعا للوجود البدوي الرعوي القبلي والحربي. كانت المدن تستبطن في داخلها الفكرة الإتحادية المجمعة ونزوعا معينا إلى الهيمنة، غير أن المدينة ظلت واقع أقلية وكانت على الدوام مخترقة بالمبدإ القبلي الذي كانت تحاول عبثا تجاوزه. (8 ) كان الصراع على أشده عشية ظهور الإسلام بين البداوة والمدينة، فقد أصبح مستقبل عرب شبه الجزيرة رهين حسم هذا الصراع. كان لزاما على المدينة أن تتخلص من الإرث الأنتروبولوجي الثقيل للبداوة، فلا معنى أن تؤسس مدنا تكتسحها عقلية الثأر والإغارة ونمط إقتصادي رعوي مع ما ينتجه من قيم وسلوكات لا تستقيم ونمط العيش في المدن. فالمدن القادرة على إدخال العرب التاريخ هي تلك التي تقدر على إنشاء نمط إقتصادي جديد وتغيير الرموز الثقافية وكذلك الميراث الأنتروبولوجي، إما بثورة تعصف بالسائد من معتقداته وتصوراته ونظرته للوجود وللإنسان وإما بإصلاح لمنظومة القيم التي لم تعد تستجيب لطموحات المدن في وضع بصمتها الخاصة في تاريخ المنطقة. فالقرن السادس الميلادي هو عصر الجاهلية حسب هشام جعيط عصر العنف والجهل، في ظل خضوع اليمن للأجنبي الاحباش والفرس، هنا يبرز صعود مكة في ظل الهيمنة البدوية العددية، كأنها الظاهرة الأولى، لأنها الأكثر إمتلاءا بالمستقبل يقول جعيط: " إن أهمية مكة تنبع من كونها كانت مدعوة لتنظيم وتدبير القوى الجديدة للعروبة البدوية ولإجراء عملية وصل بين العالمين الداخلي والخارجي، عالم القبيلة وعالم المدينة بشكل لم يحدث من قبل. " (9) هناك مدن كان بإمكانها أن تلعب الدور التاريخي التوحيدي أفضل من مكة مثل الحيرة، لكنها كانت قوة مدعومة من الأجنبي- الإمبراطورية الساسانية- لم يكن هواها عربيا خالصا فلم تستطع توسيع نفوذها إلى كل الجزيرة العربية كما أنها لم تكن حاملة لرؤى مستقبلية للعرب، أما عالم الشمال عالم عرب الماضي الأوائل لم يعد قادرا على القيام بدوره كوسيط ثقافي، فقد تلاشت مدنه العربية وأصبحت موطن هجرة نقلت عرب اليمن من الجنوب إلى الشمال والذين صاروا قضاعة مع مزايا وسمات بدوية صرفة وخاضعين فوق ذلك لبيزنطة. (10) إن الجزيرة العربية الوسطى المحصورة بين قطبين في حالة إنحطاط، بدأت تظهر داخلها مدن مثل مكة والطائف ويثرب، إنها هي أيضا أنشئت على أساس قبلي لكنها كانت تستمد مادة وجودها من الزراعة والتجارة وكانت مكة قائمة في وسط الحرم أو الأرض المقدسة، الحرم الأهم في كل الجزيرة العربية نظرا لكونه مركز حج يتجلى فيه بكل نصاعة تفاعل المدينة والقبائل، نحن أمام أرستقراطية دينية تناظر الأرستقراطية الحربية لدى كبريات القبائل الرعوية والبدوية. (11) كان العرب حسب جعيط موحدين بالدم واللغة والدين – رغم تعدد الآلهة وعبادة الأوثان ؟– ويشكلون أمة ثقافية وليس أمة الدولة. كانت القبيلة تحل محل الدولة إذ كان لكل قبيلة بيتها القيادي يعني أسيادها، إلا أنه لم يكن السيد يمارس سلطة قهرية كنا نجد ذلك في مكة مع قريش وفي يثرب مع الأوس والخزرج وفي الطائف مع ثقيف وكان ذلك التنظيم يسمح لسفحي العروبة البدوي والحضري أن يجد لغة مشتركة وموقفا مشتركا وقيما مشتركة مع ذلك كان يعزى لأهل المدن، لا سيما لقريش عقلية خاصة مختلفة عن عقلية البدو، كانت ترسم ما يشبه الحدود ما بين العالمين (البداوة والحضر). ( 12)
محمد النسب والشرعية: في هذه البيئة ولد النبي ودعا طيلة ثلاث عشرة سنة، كان يتحدر بخط مستقيم من قصي أي مؤسس مكة بوصفها كيانا مدينيا، أي من الرجل الذي أقر بها قريشا - ومعنى قريش من تقرش القوم تجمعوا والمقرشة أي السنة الشديدة المحل التي يتجمع فيها الناس فتنضم حواشيهم وقواصيهم – وكان قد جمع بين يديه الوظائف الدينية والسياسية والعسكرية وبنوع أخص كان النبي ينتسب إلى عشيرة عبد مناف إسم الإبن الثاني لقصي الذي كانت سمعته قد فاقت بسرعة شهرة الإبن الأكبر عبد الدار. وعلى الرغم من إنقسام عشيرة عبد مناف إلى فخذين، فخذ إبن هاشم وفخذ عبد شمس فقد ظلت متماسكة تماسكا كافيا لكي يعتبرا " العشيرة الأقربين " التي أمر الله النبي بإنذارها في القرآن (سورة الشعراء / الآية 214 ) تدل حقا على بني عبد مناف وليس فقط على بني هاشم وبذلك كان النبي ينتسب إلى إحدى عشيرتي قريش المقدستين التي كانت تشارك في خدمة الحجيج وفي القيادة العسكرية. (13) لئن كان توسع التجارة الذي كان ظاهرة حديثة العهد، قد أوجد تباينا إجتماعيا يظهر قيمة عشائر لم تكن منحدرة من قصي مثل مخزوم أو فخذ عبد شمس على حساب فخذ هاشم المنحدرين كليهما من عبد مناف، فإن عشيرة عبد مناف قد ظلت مع ذلك تحتفظ بمكانة مميزة مؤسسيا وكانت تمثل في الممارسة بيت قريش خاصة وهذا أمر بالغ الأهمية حسب هشام جعيط لفهم الصعود النبوي لمحمد ونجاحه اللاحق في المدينة وبيت القبائل العربية. لم يكن محمد على الرغم من فقره ومن فقر عمه وحاميه أبي طالب متحدرا من أي كان بل من قصي وعبد مناف وكان بهذه الصحة يمكنه أن يظهر في أعين العرب كممثل لقريش في غاية الكمال. (14) يرى هشام جعيط أنه لا مناص من الفصل المطلق بين التبشير الديني لمحمد طيلة 13 سنة في مكة بالذات وهو تبشير ديني محض أدى إلى ولادة الإسلام وبين التوليف المقبل في المدينة بين الدولة والدين. فالعنصر الأول نتاج إتجاه روحي عميق ويندرج في سياق المدى الطويل لتطور الروحانية التوحيدية والثاني هو ثمرة المصادفة ويلبي الحاجة إلى تجاوز هامشية محلية، هامشية الجزيرة العربية بإدخال مبدإ الدولة فيها وإليها. (15) لكنا نرى أن ما حدث في المدينة لم يكن ثمرة المصادفة لأن الوحي الذي رافق مسيرة الألم في سبيل الدعوة إلى الله في مكة وهو الذي إستند إليه جعيط في فهم سيرة الرسول، ظل يرافقها في المدينة ويعمل على تجذير مبادئها من خلال سيرة الرسول وظل يؤرخ لأحداث كبرى عاشها النبي. يؤكد هشام جعيط أيضا على أن النبي لم يؤسس ملة أو طائفة بل دينا جديدا وذلك في رده على مكسيم رودنسون في كتابه، محمد، الصادر بباريس، سنة 1968، ص 95. كما فند جعيط مزاعم عدد من المستشرقين، في أن الدعوة المحمدية في مكة كانت ذات أهداف سياسية أي الهيمنة على مكة، فلا يوجد إسناد لآفتراض كهذا. وإن كان خصوم النبي ينسبون إليه مطامح فلا يعني إطلاقا أن النبي كان صاحبها حقا، بل يعني أن أفقهم كان قد بقي محصورا ومحدودا بحدود مدينتهم اللئيمة وموازين النفوذ الإجتماعي. (16) لكن يمكن أن نلحظ من جانب أهل مكة مقاومة ثقافية ودينية في سبيل الشرك – تعدد الآلهة- وآحترام الأجداد اللذين إنتقدهما القرآن الكريم. إن المسألة التي صادفها النبي في مكة هي ذات بعد ثقافي وديني ولا علاقة لها بالتجارة ولا بالسياسة فهي دينية أولا وثقافية ثانيا، هي ثقافية من حيث أنها تريد أن تعطي للشعب العربي كتابه المقدس ونبيه: مؤدبه الديني والأخلاقي. (17)
دولة - المدينة النبوية:
إن النبوة حدث un fait prophétique لأن لها أثرا في التاريخ وأثرها ليس هينا، رغم إندراجها في التراث الإبراهيمي، إلا أنها حدث غير مسبوق بالنسبة إلى العرب، فقد جعلت منهم أمة ذات ملامح مخصوصة وتركت بصماتها التي لا تنمحي في وجدانهم. لقد كانت عابرة للقبائل والعشائر، لذلك إستطاعت أن توحدهم. يقول عبد المجيد الشرفي في مقارنته بين النبوة والنظام القبلي والعوامل التي مكنت النبوة من لعب هذا الدور: " لعل الفارق بينه – أي الرسول – وبين زعماء العشائر ورؤساء القبائل أن نفوذ هؤلاء مقتصر على عشائرهم وقبائلهم، بينما يخترق نفوذ النبي الإنتماءات القبلية ويعلو عليها دون أن يلغيها (...) كما يستند النبي إلى مرجعية دينية لا تتوفر لهم، وبهذا المعنى فإن سلطته لا تورث " (18) فمنذ الفترة المدنية بدأت ملامح الفعل النبوي في التاريخ تظهر، إنه حدث تأسيسي un événement inaugurateur بدأ بتغيير إسم دار الهجرة التي ستحتض الدولة- المدينة من يثرب إلى المدينة وفي ذلك إشارة إلى أن الدين الجديد قادر على إدارة الإختلاف العرقي والديني وحتى اللغوي في محيطه الجديد. لقد إعتبر هشام جعيط المدن العربية الإسلامية الناشئة تمثل تحولا أو " قطيعة " نحو صناعة حضارة جديدة دون إنكار لآستمرار دور النمطين الكلاسيكيين الآخرين في أداء دورهما الحضاري ويعني بذلك مدن القوافل في الصحراء وعلى حفافيها ومدن الدول العظيمة التي تأسست على شواطئ البحار والأنهار. كان " حدث الدولة " في الحياة العربية موضوعا مركزيا عند هشام جعيط عمل من خلال إستقرائه لتاريخ الإسلام المبكر على إبراز أهميته وتأثيره في تصوراتنا وفي رؤيتنا. يتحدث رضوان السيد في مقال نشر بعد وفاة هشام جعيط، يذكر فيه حوارا دار بينهما حول قيام الامة في التاريخ وحول إيديولوجيا الجماعة وهي مواضيع عزيزة على رضوان السيد وكان جعيط مشغولا بدولة المدينة التي إتجهت لإنجاز مشروع الأمة. وحين سأل رضوان السيد هشام جعيط عن إيديولوجيا الوحدات الثلاث: وحدة الجماعة، وحدة الدار ووحدة السلطة أو الدولة كان جعيط يجيب بأن " الدولة في المدينة " هي أساس الوحدتين الأخريين في إرادة التحقق وفي الوعي بذلك. وفي الوقت الذي يرى فيه رضوان السيد أن المدينة – الدولة هي المدينة الإغريقية يرى جعيط أن دولة المدينة هي التي تسعى بوعي للإنسياح في العالم مقدمة نمطا حضاريا جديدا. (19) إن المدينة- الدولة عند الإغريق تتميز بأن علماءها ومفكريها وفلاسفتها كرسوا مجهوداتهم لخدمة المصلحة العامة ودعوا إلى إقامة نظام سياسي يحقق العدالة ويثقف ويعلم ويربي النشء الصاعد. لقد كان لكل مدينة - دولة دساتيرها وقوانينها وآلهتها حتى وإن كانوا جميعا يشتركون في مكان واحد هو اليونان. لقد حدد أرسطو بعض الشروط الواجب توفرها لقيام المدينة – الدولة وتتمثل في: قيم خاصة بالمدينة، مؤسسات، وسائل عيش وقوة عسكرية للدفاع عن النفس. يتكون المجتمع داخل المدينة- الدولة من ثلاث طبقات تختلف من حيث الحقوق السياسية: الطبقة الأولى هي طبقة المواطنين الأحرار وهي الفئة الحاكمة، العسكر، ملاك الأراضي وفئة التجار يتمتعون بحقوقهم السياسية كاملة. الطبقة الثانية هي طبقة الأجانب الذين يعيشون في المدينة هم أحرار ولا يخضعون لأية سلطة حاكمة إلا أن بقاءهم متوقف على حسن تصرفهم أي خضوعهم لقانون المدينة، في حالة خرق القانون يطردون، ليس لهم حقوق سياسية. الطبقة الثالثة هي طبقة العبيد تعمل على إرضاء وإشباع حاجيات طبقتي الأحرار والأجانب وهي محرومة من جميع الحقوق السياسية فهي بمثابة أداة عمل. أما دولة المدينة النبوية فقد كانت لها تشريعاتها الخاصة وعقائدها المميزة، فقد ظلت طيلة حياة محمد بالمدينة تنحت شخصيتها الخاصة. شكلت غزوة الخندق حسب هشام جعيط، بآعتبارها خطرا خارجيا يستهدف إستئصال التجربة الوليدة من جذورها، عامل تماسك ووحدة لسكان المدينة جميعا(20). لقد وضعت هذه الغزوة دستور المدينة الذي ينظم العلاقات بين مختلف مكونات المدينة الإجتماعية والعرقية ووالدينية أمام إختبار تجسيد قيم التعايش المشتركة التي تضبط العلاقات فيما بين تلك المكونات. عملت دولة المدينة النبوية على الإعلاء من شأن العلم لذلك حاولت إقامة توازن جديد مع ثقافة المشافهة، السمة البارزة لثقافة البداوة وذلك بالتشجيع على تعلم القراءة والكتابة. كانت دولة المدينة توظف كل الإمكانات التي يتيحها الدين الجديد الذي أصبح هو المحدد الرئيس لهوية الجماعة ولإنتمائها، بعيدا عن عصبية الدم والعشيرة والقبيلة. إن الموروث الثقافي لفترة ما قبل الإسلام، والحامل لقيم سلبية عمل الدين الجديد على التخلص منه تدريجيا فمسألة العبيد وهي ظاهرة إجتماعية كونية في تلك الفترة إذ أن وجود مجتمع من دون عبيد ظل أمرا غير مفكر فيه أو مما يستحيل التفكير فيه آنذاك، لكن الدين الجديد وفي تكريسه لقيمة الإنسان ولعلو منزلته عمل على التشجيع على عتق العبيد من خلال نصوص ذات بعد مقاصد ومن خلال ممارسات تاريخية تذهب إلى الدفاع عن إنسانية الإنسان بقطع النظر عن هويته الدينية والعرقية وذلك تكريسا لقيم المساواة والعدل والإنصاف. إن الإسلام في داخله كان حاضنا للمختلف، وباحثا عن المشترك ومنفتحا على الآخر المغاير في نزوع متصاعد لتحجيم أثر النزعة القبلية في الدين الجديد، فمع بلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي، هذه الشخصيات بموروثاتها الثقافية والتاريخية أصبحت التجلي الأمثل لقدرة الدين / النبوة على صهر الجميع في أمة واحدة. في إطار إستمرار دولة – المدينة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم عمل الخليفة أبو بكر الصديق على التصدي لكل ما من شأنه أن يحدث تصدعات داخل جسم الأمة المتماسك وهما ظاهرتا الردة، وإدعاء النبوة وقد حلل هشام جعيط الظاهرة الثانية ليؤكد من خلالها أن السلطة في نظر العرب لا يمكن أن تقام إلا بنبوة تفرض على الجميع الإعتراف بها. يشرح جعيط ظهور نبوات شتى بأنه أمر مثير وذو دلالة على الترابط ما بين الدين والسياسة فقد جرى في كل المصادر وصف هؤلاء - طلحة عند بني أسد، سجاح عند تميم، الأسود العنسي في اليمن، ذي التاج في عمان ومسيلمة عند بني حنيفة – بالأنبياء الزائفين كأنواع من الكهنة لهم شياطينهم الخاصة بهم وينطقون بكلام مسجع ويمارسون السلطة الروحية والسلطة الزمنية. (21) ويرى جعيط أن ظهور تلك النبوءات في كل مكان تقريبا يطرح مشكلة، فهل يتعلق الأمر بمحاكاة محض للنبي محمد أم يتعلق الأمر بتعبير أعمق عن حقيقة مجتمعية وحضارية؟ وهل كانوا صدى لمحمد وتكرارا آليا لأستاذيته وسلطانه العقائدي أم كان الأمر متعلقا بإفراز مجتمع قبلي لا يمكنه بلوغ السلطة المنظمة إلا من خلال الحركة النبوية؟ حسب جعيط يتعلق الأمر بالإثنين معا. فلم يكن بمستطاع الأرستقراطية المحاربة أن تبلور سلطة دولة فقد كانت الظاهرة الدينية وحدها قادرة على توحيد الناس وعلى الحصول منهم على الطاعة والتشريع والتنظيم وقيادتهم إلى الحرب (...) لا بد من التسليم بأن تصور السلطة كان مستحيلا بدون النبوة في الوسط القبلي وفي ظروف الجزيرة العربية آنذاك. (22) يرجع جعيط الفشل الذي آلت إليه دعوات أدعياء النبوة إلى أنها كانت هشة لأنها مجرد تعبير عن القبيلة ولأنها لم تمر بمسيرة طويلة ولا بتجربة صادقة تعطيها مصداقية، كانت في مواجهة نبوة تملك مرتكزاتها الخاصة وكانت قد أسست قاعدتها الإجتماعية ومرت بمسيرة طويلة وتملك فضلا عن ذلك كله شعورا قويا بالحقيقة. (23) يشرح هشام جعيط إختيار أبي بكر وعمر كخليفتين للرسول صلى الله عليه وسلم عقب وفاته والإجماع الذي إنعقد حولهما، بأنهما حالة إستثنائية وتجسيدا للصحبة الإسلامية المحض وهي فوق إعتبارات قرابة البيت أو الإنتماء العشائري ويرى أنهما يتابعان على هذا النحو بارقة النبوة. (24) كلاهما لم يكونا ينتميان إلى قبائل كبيرة مهووسة بالجاه والسلطة، معهما يتجسد نزوع الإسلام إلى إسناد السلطة والحكم إلى من هو جدير بهما بعيدا عن منطق التوريث وعن صلة الدم والعشيرة، كانت معهما قيم الإسلام تتقدم على الأسرة وهو مسار انخرط فيه الإسلام يقوم على محاربة بقايا ما خلفته آنتروبولوجبا البداوة وما تركته في وعي الإنسان العربي، إلا أن للتاريخ منطقه ومساره الخاص ولا سيما الأحداث التي عاشتها الأمة بعد مقتل عثمان. و التي كشفت عن عودة قوية لمنطق القبيلة وللعصبية.
الخاتمة: يقدم هشام جعيط في آخر كتابه حول الوحي والقرآن والنبوة، شهادة رائعة حول رؤيته لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، شهادة من مختص في تاريخ الأديان المقارن تؤكد عمق الخلاصات التي توصل إليها بعد دراسته لسيرة الرسول ومقارنتها ببقية الأنبياء والشخصيات التي تركت بصمتها في وجدان الشعوب التي عاشوا بينها وفي تاريخها، يقول: " وإذا كان محمد ممن بنى الضمير الإنساني الداخلي ومن ثم الحضارة والثقافة والأخلاق، وكان ممن أسهم بقوة في قفزة كبيرة في مسار الإنسانية من الحيوانية إلى الإنسانية، وهؤلاء الهداة قلة، وإذا كان ممن أعطى لمسار التوحيدية أرقى تعابيرها من الوجهة الأنطولوجية على الأقل، فهذا النبي يبقى شاهدا على الله وعلى أمته شهيدا ولهذا لهو حقيقة النبوة المحمدية وجوهرها في الأعماق. " (25)
***
رمضان بن رمضان باحث في الحضارة العربية الإسلامية
...............................
الهوامش والتعليقات:
1 – حوار مع هشام جعيط أجرته معه حياة السايب، موقع ثقافات، أعيد نشره في 24 يونيو 2021
2 – عبد الرحمان إبن خلدون (ت 808 هج/ 1406 م)، المقدمة، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1421 هج / 2000، ص 119.
3 – هشام جعيط، في السيرة النبوية- 2 – تاريخية الدعوة المحمدية في مكة، دار الطليعة، بيروت، ط 2، 2007، ص 145.
4 – ن. م ص 156
5 – ن. م ص 156
6 – ن. م ص 157
7- ن. م ص 157.
8 – هشام جعيط، الفتنة جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر، دار الطليعة، بيروت، د. ت، ترجمة خليل أحمد خليل، ص 13.
9 – ن. م ص 13
10 – ن. م ص 14
11 – ن. م ص 14
12 – ن. م ص 15
13 – ن. م ص 18
14 – ن. م ص 19
15 – ن. م ص 20
16 – ن. م ص 21
17 – ن. م ص 21
18-عبد المجيد الشرفي، الإسلام بين الرسالة والتاريخ، دار الطليعة، بيروت، 2001، صص 76 - 77.
19 – رضوان السيد، " هشام جعيط... المؤرخ والمفكر النهضوي العربي " جريدة الرأي، الجمعة 23 شوال / 04 يونيو 2021 رقم العدد 15529.
20 – هشام جعيط، الفتنة جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر، ص 27
21 – ن. م ص 39
22 – ن. م ص 40
23 – ن. م ص 40
24 – ن. م ص 37
25- هشام جعيط، في السيرة النبوية – 1 – الوحي والقرآن والنبوة، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الرابعة، 2008، ص 107