قضايا
سجاد مصطفى: هل يتكلم المثقف العراقي بلغة موته أم لغته الحقيقية؟

تمهيد: يواجه المثقف العراقي المعاصر إشكالية عميقة تتجاوز مجرد اختيار الكلمات، لتصل إلى جوهر الهوية والتعبير عن الذات. يتجلّى هذا التحدي في تقاطع مأزوم بين لغتين: لهجة الأم التي تمثل الأصل العضوي للغة، والفصحى التي تمثل اللغة الرسمية والمطلوب استخدامها في الخطاب الفكري والثقافي. فهل يُطلب من المثقف أن يتحدث بلسان ما يفكر به، أم بلسان ما يُتوقع منه أن يفكر به؟ وهل يمكن أن تكون اللغة أداة حرية ووعي إذا كانت ذاتها سُلطةً وقيدًا؟
ثنائية اللغة: بين الذات والسلطة
المثقف العراقي يتربّى في بيئة لغوية مزدوجة، تكاد تشكّل لديه انقسامًا معرفيًا وعاطفيًا: اللهجة هي اللغة الأولى التي يتلقّاها شفويًا من أسرته وبيئته، تعبيرًا عن حيويته وعفويته، بينما الفصحى هي اللغة التي يُطلب منه التفكير والكتابة بها، لغة النخبة والمعرفة الرسمية.
هذا الانفصام اللغوي لا يُنتج تعددية غنية كما قد يظن البعض، بل يولّد شعورًا مزمنًا بالانفصال بين الوعي والتعبير، بين الشعور واللفظ، فتُصبح الكلمات “فصلًا” في جسده النفسي، لا امتدادًا طبيعيًا لوجدانه.
إن المشكلة ليست في الفصحى نفسها، التي تمثل منظومة لغوية رصينة، بل في الوظيفة السلطوية التي أُنيطت بها، حيث تحولت إلى معيار للتمييز الاجتماعي والطبقي، "غربال" يستبعد من لا يجيدها من حيث الانتماء، لا من حيث الإفهام.
يقول المفكر هادي العلوي: اللغة تمارس وظيفتها القمعية حين تتحول إلى شرطٍ مسبقٍ للقبول في جماعة النخبة.
وهذا ما يبرر احتقار اللهجة، وتحويلها إلى وصمة عار، وكأنها خلل لغوي وليس تركيبًا سيميائيًا يحمل ثقافة وتاريخًا وتجربة شعبية.
الفصحى كسلطة مركزية واللهجة كحقل مقاومة
ما لا يُقال كثيرًا هو أن الفصحى، بصفتها لسانًا موحدًا، تخدم السلطة الثقافية المركزية أكثر مما تخدم الأفراد. بينما اللهجة، بعمقها الشعبي وتاريخها الحيّ، تحمل في طياتها عناصر المقاومة واللاانضباط والتعبير الصادق.
هل يعقل أن نطالب المثقف بأن يتحدث عن القهر الاجتماعي والظلم والهامشية بلغة تتماهى مع بنية القهر الرمزي نفسه؟ هل يمكن للغة مهيمنة أن تكون مرآة للذات المقهورة؟
كما يقول عبد الجبار عبد الله: الانفصال بين اللغة واللهجة لا يعود إلى جوهر اللفظ، بل إلى تصنيفٍ اجتماعي أنتجته السلطة، لا اللسان. هذا التصنيف الاجتماعي يجعل المثقف يخجل من صوته الأول، من لحن بيئته، من الكلمات التي تعبّر عن أصالته وتُحرج منطق النخبة.
الكتابة واللغة: بين العضوية والمصطنع
لقد قلتُ ذات مرة: الكتابة بلسانٍ مُعقَّم تُفقد الفكر عضويته، كما يُفقد الجسد حيويته حين يُفرَض عليه أن يتحرك بطريقةٍ مصطنعة. فالكتابة ليست مجرد تركيب جمل سليمة، بل هي تفاعل حيّ بين الفكر واللغة والذات، وإذا أُجبرت على الارتداء لغة لا تنتمي إليها، يُصبح الخطاب بلا روح، بلا حرارة، بلا صوتٍ صادق.
السؤال ليس أيّ اللغة أفضل، بل هل الفصحى وحدها قادرة على نقل التعقيد الوجداني والاجتماعي والسياسي الذي نعيشه؟ هل بإمكانها أن تواكبنا بكل تناقضاتنا وأحزاننا وفرحنا؟
المثقف بين الولاء للغة الأم والالتزام بالفصحى
المثقف الذي يتخلى عن لهجة أمّه لا يفقد اللحن فحسب، بل يفقد جزءًا من بنيته الشعورية، فتذبل أشجاره الداخلية، ويصبح كلامه ناقصًا، وكأنه يعزف على آلة موسيقية معطوبة.
هذا ما يجعل خطابنا الثقافي اليوم شاحبًا، مرهقًا، منزوغ الصوت، مرتبك الهوية.
خاتمة: تأملات وتساؤلات
ليس العداء مع الفصحى، بل مع تحولها إلى أداة قمع تقتل تنوعنا اللغوي وتُغلق نوافذنا على أنفسنا. المثقف الحقيقي هو من يقف على حافة التوتر بين أصله ولهجته ولغته الرسمية، ويُحافظ على صوت ذاته.
هل يمكن أن نحيا حرية فكرية إذا كنا نكبت ألسنتنا؟ هل نرضى أن نُجبر على تنحية أصواتنا الأولى، والعيش بصمت مقيّدٍ؟
أسئلة تطرحها الحقيقة
هل الفصحى لغة الفكر الحقيقي، إذا حُرم صوت اللهجة من الارتفاع والسمع؟
من قرر أن اللهجة عيب لغوي، وأن الفصحى وحدها لغة العقل؟
كيف نحافظ على هويتنا إذا فقدنا لغة الدفء التي نولد بها؟
هل المثقف الذي يرفض لهجته، هو حقًا مثقف، أم مجرد ناطق بلغات الآخرين؟
كيف نطالب بالحرية الفكرية إذا كنا نقيّد ألسنتنا بقوالب مفروضة؟
وإذا لم يكن اللسان ملكنا، فمن يملكنا إذن؟
(الصوت الذي يُفكر كما وُلد، أقرب إلى الحقيقة من الصوت الذي يتجمّل ليُسمع).
***
الكاتب سجاد مصطفى حمود