قضايا

حبيب مركة: أثر المفكرين الفرنسيين في بناء فلسفة نيتشه

ذلك الشغف الفرنسي بالرونق، والالتزام بالارتقاء بمبادئ وقيم البشرية في قرن لويس الخامس عشر، ذلك البريق المشع في عصر ڤولتير وروسو، هو ما غيّر فكر نيتشه وجعل منه فيلسوفًا ألمانيًا بنكهة فرنسية.

لا يمكن للمرء أن يتكهن، إجمالاً، بما قد يصيبه عندما يقرأ كتابًا ما، خصوصًا حين تصبح قابليته الفكرية مندمجة مع حاضره الملعون. تلك الرغبة في التحرر من المذهب المثالي الألماني ونمطه الحديدي، أرهقت كاهل نيتشه إلى درجة تمجيده لدقة المفكرين والمثقفين الفرنسيين في تحليل الوضع البشري، من دولا روشفوكو و مونتين وحتى باسكال رغم نقده لمسحيته، لكنه لطالما أعجب بعمقه النفسي ونمطه المتأني في إخلاصه للرقي بالنفس البشرية، بدل الخوض في دهاليز الأفكار المعقدة واللاإنسانية.

بل إنه صرّح في غسق الأوثان أنه تلميذ القرن السابع عشر من الفلسفة الفرنسية، وأن له قواسم مشتركة مع المفكرين الفرنسيين أكثر مما له مع أبناء جلدته الألمان. ولعل تلك الأسطر التي مجّد فيها شك مونتين ورغبة هذا الأخير في نقد السلطة والقمع والرهبنة الكنسية، هي التي دفعت نيتشه إلى جلد نظام الأخلاق الذي وضعته الكنيسة، بوصفه أخلاق العبيد والضعفاء.

فريدريش حذّر بكل ما أوتي من قوة من الثقافة الألمانية، التي رأى فيها ترفّعًا سلطويًا على البشرية بأسرها، ووصف الثقافة الفرنسية كبوابة للانفتاح على العالم.

لطالما تساءلتُ: لماذا كان لنيتشه أسلوب كتابة شاعري، كشظايا نارية تحصد الأخضر واليابس؟

فبعد اطلاعي على جل المفكرين الفرنسيين و قراءتي لكتب نيتشه، فهمت وبعمق من أين استوحى فريدريش نمطه: مزجٌ بين شاعرية فرنسية وقوة ألمانية جارفة.

بل إن تأثير ستاندال وفرانس أناتول كان واضحًا بين أسطره.

وبذلك استطاع تكوين فلسفة متحررة من ثقل الميتافيزيقا، التي كانت تُهيمن على الفكر الألماني بعد كانط وهيغل.

جاءهم نيتشه بمصباح ومطرقة، ليبدأ عمله التدميري من أجل إعادة بناء شاكلة جديدة من الفكر الأوروبي: فلسفة حيّة، حرّة، ومتفردة، تقطع الطريق على توهان الألمان وتعصبيتهم، وتفتح السبيل نحو تكوين نموذج جديد للإنسان الأعلى.

***-

حبيب مركة

 

في المثقف اليوم