قضايا
عباس عبيد: الفجوة الأسرية.. دور الآباء في الحد من إدمان التقنية

خلال العقدين الماضيين، وبسرعة مذهلة حقاً غيرت التكنولوجيا عالمنا القديم إلى غير رجعة، ونجحت بفرض هيمنتها بوصفها وسيطاً أساسياً في ميادين التعليم، والتصنيع، والمعاملات التجارية والرسمية، والتصميم، والترفيه. ومع شبكات التواصل الاجتماعي تحديداً لم يعد للحياة التي عاشها جيل الآباء الايقاع ذاته، بل ولا الطعم، ولا الثقافة أيضاً. يأتي ذلك بخلاف جيل الأبناء المولودين في عهد الصعود المدوي لشبكة الإنترنت، والتمدد اللامحدود للعالم الرقمي. لقد كانت بعض النخب العربية تدق ناقوس الخطر قبل ربع قرن محذرة من مخاطر الفجوة الرقمية بين الغرب والشرق، اليوم، وقد صارت الهواتف الذكية لا تفارق أيدي الأطفال قبل الكبار تولد فجوة أخرى ليست بأقل خطورة من الأولى، بل ربما كانت أشد تأثيراً في عالمنا العربي، فجوة أسرية.
لا أحد بوسعه أن يجحد الفوائد المذهلة التي توفرها التقنية الحديثة، لكن حين يتمكن أطفال في عمر الرابعة والخامسة من الدخول - بلا رقيب موجه - لشبكة الانترنت بكل ما تنطوي عليه من مغريات وتناقضات ومخاطر فإن من بين ما يعنيه ذلك أنهم قد بدأوا خطوتهم الأولى في طريق مغرٍ عنوانه: إدمان التقنية. وجميعنا يعلم أن أي شكل من أشكال الإدمان سيفضي حتماً إلى النتائج المعروفة ذاتها، إلى الشرود الذهني، إلى قلة التركيز، وإلى ضعف الثقة بالنفس، وعدم القدرة على الاندماج والتواصل مع المجتمع.
تبدأ تلك الأعراض بالظهور حين لا يوفر الآباء وقتاً كافياً للتواصل العاطفي مع أبنائهم، لا سيما أولئك الذين يعملون لساعات طويلة بشكل يومي، فهم لن يكونوا قادرين على تزويد الأبناء بالخبرات الحياتية، والتقاليد الثقافية عبر أساليب تقليدية غير رقمية لكنها -مع ذلك- مفعمة بالتشويق، مثل سرد الحكايات الممتعة ذات المغزى الأخلاقي، وبعض الألعاب البدنية المثيرة، والمفيدة للصحة البدنية. أو حتى بأن يلزم الآباء أنفسهم بالتعرف على ما يستجد في العالم الرحب لألعاب الفيديو، ومشاركتهم اللعب مع الأبناء باختيار ألعاب تجمع بين الأسلوب الترفيهي المثير والمضمون التعليمي في آن واحد.
من الواجب أن يتمكن الأبوان من تأسيس أرضية للتواصل الحميمي، وخلق أوقات تتنحى فيها الهواتف الذكية لبعض الوقت من أيدي الأبناء. من تراه قادراً على فعل ذلك سواهم؟ إن التواصل المباشر وجهاً لوجه، والشروع بالحديث، وتقديم إجابات شافية عن تساؤلات الأبناء المشروعة التي لا تنتهي بدلاً من أن يحصل عليها الأبناء من مصادر إلكترونية غير موثوقة، أو عن طريق أصدقاء افتراضيين لا أحد يعرف حقيقتهم، أو يعلم صدق نواياهم، أقول إن ذلك كله يعني من بين ما يعنيه إعادة تجسير للهوة الفاصلة بين أفراد الأسرة. وتلك هي أولى خطوات التعافي من شرور إدمان التقنية، والدفع باتجاه بناء المجتمع السليم.
***
عباس عبيد