قضايا

علي حسين: زيغمونت باومان.. العيش في ظل السعادة السائلة

قال ان حياته اتسمت بالهدوء والخجل من الآخرين، لكنه ما أن يطلب منه الكلمة في مؤتمر أو حلقة دراسية حتى تتجه الانظار اليه ويسود الصمت، فالرجل الأنيق في مظهره، صاحب الشعر الابيض المنكوش، أنيق ايضا في اختيار عباراته، بعكس المقالات التي يكتبها والتي دائما ما تثير الضجيج والتساؤل. يقول أن القدر خدمه كثيراً: " أن يكون المرء غريباً هو وضع متميز "، يردد دائماً ان الحياة لا يمكن أن تكون إلا عملا فنياً: " إذا كانت الحياة بشرية، حياة كائن يتمتع بالارادة وحرية الاختيار. إذ تترك الإرادة والاختيار بصماتها على شكل الحياة " – باومان فن الحياة ترجمة محمود احمد -. وصِف بأنه: " أحد المعلقين الاكثر اهتماماً والاكثر تاثيراً على حالتنا الإنسانية، وان كتبه ومقالاته هي واحدة من اكثر الاعمال اهمية لفهم طبيعة العالم الذي نعيش فيه ".

أن تكون فرداً، معناها أن تكون مسؤولاً عن اختيارك للحياة، وهذا الأمر ليس بحد ذاته مسألة اختيار، بل هو قرار مصيري يتعلق بحريتك: " الحرية تعني القدرة على تحقيق رغبات المرء وأهدافه"، إلا ان زيغمونت باومان يرى أن فن العيش الاستهلاكي في عصر الحداثة السائلة يَعِدُ بهذه الحرية، لكنه يفشل في الوفاء بوعده. قال انه في شبابه، تأثركثيراً بفكرة سارتر "مشروع الحياة". اصنع مشروعك الخاص للحياة، وامضِ قدماً نحو هذا الهدف، سالكاً أقصر الطرق وأكثرها مباشرة. حدد أي نوع من الأشخاص تريد أن تكون، وعندها ستكون لديك الصيغة اللازمة لتصبح هذا الشخص. لكل نوع من الحياة قواعد محددة، وسمات يجب أن نكتسبها. من البداية إلى النهاية، كما تصور سارتر، تسير الحياة خطوة بخطوة على طريق محدد تماماً حتى قبل أن نبدأ الرحلة.

صاغ باومان مصطلح "الحداثة السائلة"، الذي يشير إلى الوضع الراهن لمجتمعنا وما يشهده من تحولات غير مسبوقة في جميع جوانب الحياة - الحب، والعمل، والمجتمع، والسياسة، والسلطة-، وقد غطّى طيفاً واسعاً من المواضيع، من الحرب إلى العولمة، ومن تلفزيون الواقع إلى العنف، ومن الاستهلاك إلى المجتمع، متجاوزاً مجال تخصصه الأساسي ليشمل مجالات الفلسفة وعلم النفس. يصف حياته بانها مثل الانتقال من شريطي قضبان الى آخر، كل واحد منهما يذهب إلى مكان ما.

الطفل المولود في التاسع عشر من تشرين الثاني عام 1925 في مدينة بوزنان غرب بولندا لعائلة فقيرة، كان الاب قارئاً نهماً، اثر كثيرا على ابنه الذي وجد نفسه منذ الصبا غارقا في كتب الادب والفلسفة، إلا ان هذه الحياة لم تستمر طويلا فما أن بلغ الرابعة عشر من عمره، حتى وجد نفسه مهاجرا مع عائلته صوب الاتحاد السوفيتي، خوفا من ملاحقات الجيش النازي الذي احتل بولندا عام 1939، في السادسة عشر من عمره يعمل مجنداً في الجيش الاحمر، بعدها يرقى الى رتبة ضابط في الجيش البولندي، بعد نهاية الحرب تعود العائلة الى بلادها، يقدم للجامعة فيرفض طلبه، ولأن العائلة لا تملك المال لم يستطع الدراسة في الخارج. كان يحلم بدراسة الفيزياء، لم يفكر آنذاك بعلم الاجتماع، كانت الحرب قد دمرت بلاده: " كنت شاب في التاسعة عشر من عمره عاد للتو من الغابة وخط المواجهة لاهثاً، هل ينبغي اضاعة الوقت في فهم اسرار الانفجارات الكبيرة والثقوب السود ؟ دع الثقوب السود الأخرى تحتفظ بأسرارها لبعض الوقت. أولاً جئت لبلادي وهي في حالة خراب وانفجار كبير من قيامتها " – هكذا تكلم زيغمونت باومان ترجمة محمد احمد -.

يعترف انه كان شيوعياً ملتزما أثناء الحرب العالمية الثانية، فقد كانت الماركسية بالنسبة الية طريقاً للحرية، لكن بعد احداث 68 في بولندا اخذ يردد ان الالتزام الحزبي " طريق مختصر الى مقبرة الحريات "، درس علم الاجتماع في أكاديمية وارسو للعلوم السياسية والاجتماعية، أكمل الماجستير وفي عام 1954 أصبح محاضرا في جامعة وارسو، حيث ظل هناك حتى عام 1968.كتب عن الحركة الاشتراكية البريطانية صدر اول كتبه عام 1959، بعدها نشر كتاب " علم الاجتماع اليومي " واستمر في نشر الكتب التي وجدت استجابة من القراء في بولندا.

تاثر بافكار الايطالي أنطونيو غرامشي، واخذ يوجه النقد الى الحكومة الشيوعية، مما ادى عدم منحه درجة الاستاذية في الجامعة، تعرض الى ضغوط من الامن، شملته حملة التطهير السياسي التي بلغت ذروتها بعد احداث اذار 1968، ليفقد وظيفته، فقرر ان يتخلى عن جنسيته البولونية من اجل السماح له بالسفر. امضى عامين في اسرائيل حيث كانت تعيش اعائلته، لكنه سرعان ما وجه الانتقاد الى عنصرية الحركة الصهيونية، عام 1970 تم تعينه رئيسا لقسم الاجتماع في جامعة ليدزالبريطانية، اخذ ينشر كتاباته باللغة الانكليزية. انتقد باومان الصهيونية وإسرائيل، قائلاً إن إسرائيل ليست مهتمة بالسلام وإنها "تستغل الهولوكوست لإضفاء الشرعية على الأعمال غير المعقولة".

عندما هاجر باومان الى الغرب تمسك بالتزامه بهدف تحقيق الاشتراكية، موجها النقد الى الانظمة البيروقراطية غير المستنيرة، كان هدف باومان هو خلق وجود اجتماعي يُمكن العقلانيين والمتحررين من ممارسة حريتهم بطريقة خلاقة، وقد رأى ان ازدياد انعدام الأمن الجماعي، وحالة الاضطراب التي تمر بها المجتمعات الغربية، يدفع الناس لتقبل سياسات سطحية بحثا عن راحة البال.

انصبت جهود باومان على تتبع مفهوم " السيولة " الذي استحدثه في كتابه " الحداثة السائلة " الصادر عام 2000، وقد وصف الكتاب بأنه محاولة تسعى الى فهم زمن متغير. المجتمع السائل على حد قول باومان هو حالة حضور في العالم تعارض حالة المجتمع الصلب القديم الذي كانت فيه الحياة الاجتماعية والمؤسسات ومكانة كل فرد مُحددة سلفاً بطابعها الجماعي. في حين ان العلاقات الإنسانية في المجتمع السائل قد فقدت ديمومتها وصار كل شيء مرناً وقابلاً للتخلي عنه والتخلص منه، على غرار العمل والحب والاسرة، ويؤكد باومان ان: " ما يميز ابناء المجتمع السائل هو دخولهم في حالة صراع متواصل مع ذواتهم لتحقيق اقصى درجات سعادتهم الفردية دونما كبير اهتمام بواقع مجتهاتهم وشروطها القيمية "- سامية شرف الدين ابناء المجتمع السائل مجلة الدوحة تشرين الثاني 2018 –

 ظل باومان ملتزماً بشكل من أشكال الاشتراكية التي ظلت مناهضة للثقافة السائدة،. كان يؤمن بأن المجتمع الصالح حقًا هو المجتمع الذي لا يرضى أبدا بأنه جيد بما فيه الكفاية. بينما يختار الناس إدارة شؤونهم الفردية كمستهلكين، أملاً في إيجاد حلول لمشاكلهم الخاصة من خلال التسوق، فقد توقفوا إلى حد كبير عن التصرف جماعياً كمواطنين يتشاركون قضايا عامة مشتركة. يقول: "هل يمكن لمفاهيم المساواة والديمقراطية وتقرير المصير أن تستمر عندما يُنظر إلى المجتمع بشكل أقل فأكثر على أنه نتاج عمل مشترك وقيم مشتركة، وبصورة أدق كمجرد حاوية للسلع والخدمات تتنافس عليها أيادٍ فردية؟"

يوصف باومان بأنه كاتب غزير الإنتاج ومنضبط، يبدأ الكتابة قبل شروق الشمس. وقد استمر في الكتابة والنشر حتى الايام الاخيرة من حياته، في سنواته الاخيرة حذر من صعود الشعبوية اليمينية في أوروبا والولايات المتحدة، واصفاً إياها بـ"أزمة إنسانية". كان الوعد بأوروبا تقدمية اجتماعياً يعني له الكثير. كان يؤمن إيمانًا راسخًا بأن الاتحاد الأوروبي يُمثل ضمانة للحقوق التي حُصل عليها بشق الأنفس، وللحماية المشتركة من الحرب وانعدام الأمن الاجتماعي.

تذكرنا اعماله بأن عالمنا من صنع أيدي البشر، وبالتالي يُمكنهم إعادة تشكيله أيضاً. ورغم شغفه وتشاؤمه، كتب إيمانًا منه بإمكانية مواجهة هذا التحدي، بل وضرورة مواجهته.

توفي زيغمونت باومان، في التاسع من كانون الثاني عام 2017.

كان باومان يردد إن ما يعوز مجتمعاتنا اليوم هو توقفها عن مساءلة نفسها.وقد سعى الى تشجيع عملية الحوار داخل المجتمع المدني، فكان أمله ان يعمل المثقفون على تشجيع الافراد العاديين للقيام بمشاركة قوية ونشطة في جعل المجتمع اكثر حرية وأكثر مساواة وأكثر عدالة، وقد واصل باومان تمسكه برؤيته التي تقول ان الثقافة تمثل المجال الرئيس الذي يتجدد في أطاره بناء المجتمع، كما كان لديه اعتقاد راسخ بأن المثقفين سيبقون قريبين من الناس العاديين، ويقدمون وجهة نظر حول الأمور المشتركة المثيرة للنقاش.

في الفصل الاول من كتابه " فن الحياة " يطرح باومان هذا السؤال: ما الخطأ في السعادة ؟، لقد كان كانط يقول إن الإنسان لا يمكنه أن يقصد مباشرة نموذجاً تاماً للسعادة، ولكن يمكنه على الأقل، ان يجعل نفسه جديراً بالسعادة، فيما يرى باومان اننا سعداء، طالما لم نفقد الأمل في السعادة، نحن في مأمن من التعاسة طالما ما يزال الأمل يدقُ أبوابنا وبالتالي فأن مفتاح السعادة وترياق البؤس هو الحفاظ على الأمل في السعادة حياً باقياً.

بدأ باومان رحلته الشخصية كعالم اجتماع يتبع شعار غوته الشهير: السعادة تتلخص في التغلب على التعاسة يوماً بعد يوم. سُئل غوته ذات يوم إن كانت حياته سعيدة، فأجاب: "نعم، لقد عشت حياة سعيدة للغاية، لكن لا أستطيع تذكر أسبوع واحد سعيد"يرى باومان ان هذه إجابة حكيمة للغاية. السعادة ليست بديلاً عن الصراعات والصعوبات في الحياة. البديل لذلك هو الملل. إذا لم تكن هناك مشاكل يجب حلها، ولا تحديات يجب مواجهتها والتي تتجاوز أحيانًا قدراتنا، فإننا نشعر بالملل. والملل هو أحد أكثر الأمراض البشرية شيوعا. السعادة ليست حالة بل لحظة، لحظة. نشعر بالسعادة عندما نتغلب على الشدائد والمصائب. نخلع زوجًا من الأحذية الضيقة التي تضغط على أقدامنا ونشعر بالسعادة والراحة. السعادة المستمرة مروعة، كابوس.

يرى باومان ان مجتمعاتنا اسلكت مساراً متنامياً، متقناً، ومتماسكاً. يكسب المرء فيه الأمان والقدرة على التنبؤ، لكنه يفقد الاستقلالية والحرية، إلا ان هذه المجتمعات وبدءاً من فترة ما بعد الحرب، غيّرت مسارها واصبحت سمتها الرئيسية " سيولة " متزايدة، تتكون من خيارات عابرة وآفاق جديدة. دون التقيد بمكانة محددة، كل شيء قابل للتغيير في أي وقت، ولهذا على الإنسان ان يدرك ان الرغبة في السعادة رفيقة ابدية للوجود البشري: " السعي وراء السعادة محرك رئيس للفكر والعمل البشري " – فن الحياة ترجمة احمد عبد الله -.

من اجل العيش بسعادة فان باومان يؤكد على اهمية الروابط الاجتماعية، فهذه يمكن ان تكون منبعاً للسعادة. إن الحياة المدنية تقتضي مواطنين حقيقييين، قادرين على التفكير بانفسهم، واغنياء بانسانية متحررة.

يشير باومان الى ما يسميه " مفارقة السعادة. من حهة ندرك ان الحياة صعبة، وان المعاناة في هذا العالم لا تغيب، ومن جهة أخرى، تسعدنا حقيقة كوننا احياء، في مواجهة الضرر، الألم، معاناة الوجود، باستطاعتنا في الحقيقة استقبال السعادة او رفضها، نحتار ان نكون سعداء أو تعساء، وقد اشار في كتابه " فن الحياة " الى نيتشه ومفهومه للسعادة، حيت اعتبر ان السعادة تصاحب حب الحياة، وقبول المصير على نحو تام، لن نجد السعادة من خلال رفض ضروب المعاناة في الحياة. ان الحياة يجب ان تكون صلبة مبنيةٌ على آفاقٍ مرنةٍ ومساحةٍ مشتركةٍ أوسع. فيها، تجد الطموحاتُ والرغبات التي نسعى إليها، والأحلامُ والواقعُ مكانَها. وكذلك الحريةُ والسعادة.

في كتابه " الحداثة السائلة"، يعتبر باومان مجتمع ما بعد الحداثة مجتمع صيدٍ، الكل يصطاد فيه الكل: " المسكوت عنه في مجتمعنا الحاضر، مجتمع الصيادين، هو أن باستطاعت المرء أن يكون الصياد والطريدة في الوقت نفسه، فهو يقوم في أغلب الأحيان بمطاردة الآخرين من البشر ليبقى وحد في ميدان السباق. علاوة على ذلك، فإن فكرة إنهاء الصيد، في مجتمع الصياديين، ليست نمغرية بل هي مرعبة، لان هذه النهخاية لا يمكن الآن إلا شكل هزيمة شخصية " – الحداثة السائلة ترجمة حجاج ابو جبر -.

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى البغدادية

 

في المثقف اليوم