قضايا

غالب المسعودي: من الهيمنة الى الاستبداد

تفكيك فلسفي للاستبداد في الشرق الأوسط

ارتبطت مفاهيم الحكم في الشرق الأوسط بشكل وثيق بالدين، حيث اعتبر الحاكم "ظل الله على الأرض" أو "الخليفة" الذي يمثل إرادة إلهية. هذا المفهوم الديني منح السلطة المطلقة شرعية مقدسة، وجعل أي معارضة للحاكم بمثابة معارضة للإرادة الإلهية، وهو ما يحد من تطور فكرة المواطنة أو الحقوق الفردية .بشكل متناقض تأثرت الحضارة الإسلامية المبكرة بفلاسفة مثل أفلاطون وأرسطو، لكن غالبًا ما تم تبني أفكارهم بما يخدم السلطة القائمة، على سبيل المثال، تم استخدام مفهوم أفلاطون عن "المدينة الفاضلة" لتبرير الحكم في ظل الحاكم الفيلسوف لكن هذا المفهوم وخاصة كما طرحه الفيلسوف الفارابي، يشير إلى المجتمع المثالي الذي يسعى إلى تحقيق السعادة والعدالة من خلال توجيه الأفراد نحو الفضيلة والمعرفة، و تم تجاهل فكرة العدالة والفضيلة. كما كان للعقلية الرعوية تأثير كبير على فهم معنى السلطة حيث كان ينظر إلى الحاكم على أنه "راعي" الشعب، والشعب هو "قطيعه". هذه العلاقة الأبوية تلغي فكرة الشراكة أو التعاقد الاجتماعي، وتؤسس لعلاقة قائمة على الولاء المطلق والتبعية. الحاكم هنا يمنح العطايا ويحمي الرعية، وفي المقابل، يمتنع الرعية عن المساءلة أو المطالبة بالحقوق. هذه العقلية تشكلت وتغذت من اقتصاديات الريع التي لا تحتاج إلى مساهمة فعلية من الشعب في الانتاج. مع دخول مفاهيم الحداثة إلى منطقة الشرق الاوسط، مثل الدولة القومية والديمقراطية، لم تتغلغل هذه المفاهيم الجديدة بشكل عميق في النسيج الفكري والثقافي لأسس بناء الدولة. غالبًا ما تم استيراد شكل الدولة الحديثة دون مضمونها الفلسفي، وتحولت الدولة الحديثة إلى أداة قوية بيد الأنظمة المستبدة لفرض سيطرتها، مستفيدة من التكنولوجيا ووسائل الإعلام لتكريس الهيمنة الفكرية والسياسية.

الاستبداد في الشرق الاوسط

المقاربة الفلسفية تكشف أن الاستبداد في الشرق الأوسط ليس مجرد ظاهرة سياسية عابرة، بل هو نتيجة لتراكم مفاهيم فلسفية وفكرية عميقة الجذور. هذه الظاهرة تتطلب تغيير عقلية الهيمنة والاستبداد من منظور فلسفي... الذي يتطلب منهجًا فكريًا جذريًا ومنظمًا. حيث لا يمكن أن يتم هذا التغيير عبر حلول سطحية، بل يجب أن يرتكز على إعادة بناء المفاهيم الأساسية التي تشكل الوعي الفلسفي، ويُنظر إلى العلاقة بين الحاكم والمحكوم على أنها شراكة وليست علاقة أبوية أو رعوية. يتطلب هذا نشر الوعي بأن السلطة السياسية ليست هبة إلهية أو حقًا وراثيًا، بل هي تفويض من الشعب قائم على المسؤولية والمساءلة، كذلك التغيير الفلسفي يتطلب بناء مفهوم المواطن الذي يتمتع بحقوق وواجبات متساوية، يشمل هذا التأسيس لفلسفة العدالة التي تُطبق على الجميع دون تمييز، وفلسفة الحرية الفردية التي تحمي حق الفرد في التفكير والتعبير والمشاركة. تتطلب العودة إلى مبادئ ان الأخلاقيات الأساسية في الأديان، مثل العدل والرحمة والكرامة الإنسانية يجب تفريقها عن التفسيرات السياسية التي تستخدمها السلطة، يمكن أن يكون هذا عبر تطوير فلسفة أخلاقية ترتكز على مبادئ إنسانية عالمية.

دور الفلاسفة والمثقفين

الفلاسفة هم من يمتلكون الأدوات المنهجية لـ تحليل ونقد المفاهيم الراسخة. هم من يطرحون الأسئلة الصعبة حول شرعية السلطة، ومفهوم العدالة، ومعنى الحرية، والمواطنة. اما دور المثقفون الرسميون هؤلاء غالبًا ما يكونون جزءًا من آلة السلطة، وظيفتهم هي تبرير الوضع القائم، وتزيين خطاب الاستبداد، وتكريس عقلية الهيمنة بدلاً من نقدها. يخدمون النظام القائم للحصول على مكاسب مادية أو مناصب، ويشكلون عائقًا أمام أي تغيير فكري حقيقي. السلطات بطبيعتها، تقاوم التغيير الفلسفي لأنه يهدد وجودها. تسعى دائمًا إلى الحفاظ على الوضع الراهن وتكريس أدوات الهيمنة. رغم ذلك وفي بعض الحالات، قد تضطر السلطة إلى إجراء إصلاحات سطحية استجابة لضغوط داخلية أو خارجية، وغالبًا ما تحاول تفريغ هذه الإصلاحات من مضمونها الفلسفي العميق. التغيير الفلسفي هو عملية من أسفل إلى أعلى، تبدأ من الأفراد والمثقفين النقديين الذين يزرعون البذور الفكرية في المجتمع.  إذا وجدت هذه البذور أرضًا خصبة، وتجاوزت حاجز "القطيع"، يمكن أن تشكل قوة ضغط على السلطة، وتجبرها على التغيير أو على الأقل التعامل مع المطالب الجديدة، المسؤولية تقع بالدرجة الأولى على الفلاسفة والمثقفين المستقلين، فهم من يمتلكون القدرة على إحداث هذا التحول الجذري في الوعي، وهو الذي سيؤدي في النهاية إلى تغييرات في بنية المجتمع والسلطة.

تحديات التغيير

في ظل الاستقطاب الحاد، يفقد الفرد هويته المستقلة ليصبح جزءًا من مجموعة أو فريق منحاز أيديولوجيا. الفلسفة يجب عليها ان تُقدم أدوات لفهم الذات والهوية، وتُشجع على التفكير النقدي بدلًا من التبعية. يساهم هذا في بناء أفراد قادرين على التمييز بين آرائهم الخاصة وبين الأيديولوجيات السائدة، الفلسفة ليست مجرد تفكير فردي.  ويجب أن تُصبح أداة لبناء وعي جمعي قادر على مواجهة الأكاذيب والاستقطاب، يتطلب إعادة تعريف دور المثقف من مجرد ناقل للمعرفة إلى محفز للحوار ومنظم للفعاليات الفكرية، واستبدال ثقافة الجدال والصراع بثقافة الحوار الفلسفي القائم على الاستماع والفهم من خلال البحث عن أرضية مشتركة تساهم في تجاوز الانقسامات الأيديولوجية وتمكن الأفراد من التعاون لحل المشاكل المشتركة.

التراث الفلسفي بعيون النقد

إعادة قراءة التراث بعيون نقدية ومعاصرة يمكن أن تُقدم أدوات فلسفية قوية لمواجهة تحديات الحاضر، كما تُساعد في بناء وعي جديد يتجاوز ثقافة الاستهلاك والاستقطاب، هذا التراث الفلسفي، بالرغم من أنه قدم أُطُرًا قوية لم يجد أرضًا خصبة للتطبيق العملي، اذ كان الواقع السياسي السائد هو حكم السلاطين المُطلق، وهو ما كان يتعارض مع المُثل الفلسفية للعدالة، والعقلانية، والمدينة الفاضلة. كان هدف الحكام في ذلك الوقت هو الحفاظ على السلطة، وليس تطبيق مبادئ مثالية أو ديمقراطية، لم يكن عامة الناس جزءًا من هذا الخطاب. هكذا خلقت فجوة بين الطبقة المثقفة والجماهير، مما منع أي حراك اجتماعي واسع من أجل التغيير، كما قوبلت العديد من هذه الأفكار الفلسفية، خاصة تلك التي أكدت على العقل فوق التفسيرات اللاهوتية الصارمة، بمقاومة قوية من علماء الدين التقليديين. هذا الرفض غالبًا ما أدى إلى تهميش أو حتى اضطهاد الفلاسفة، مما قلل من تأثيرهم. مصير أعمال ابن رشد، التي تم حظرها وحرقها في بعض الأماكن، هو مثال صارخ على ذلك. إنها تمثل رواية مضادة ونقدية للخطاب السياسي السائد في عصره. إنها سجل لوقت كان فيه المفكرون في المنطقة يتصارعون مع أسئلة جوهرية حول السلطة، والعدالة، والمجتمع المثالي. في بداية القرن العشرين برز مصطلح الهيمنة الثقافية الذي صاغه الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي* مصطلح "الهيمنة الثقافية "الذي يشير إلى الطريقة التي تحافظ بها الطبقة الحاكمة على سيطرتها، ليس فقط من خلال الوسائل السياسية أو الاقتصادية والقمعية، ولكن أيضًا من خلال السيطرة على الثقافة والمفاهيم الفكرية السائدة في المجتمع. وبعبارة أخرى، هيمنة ثقافة معينة على ثقافة أخرى في جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. (“فهم الهيمنة الثقافية: قوة مهيمنة في تشكيل المجتمعات”) يرى غرامشي أن السيطرة لا تتحقق بالقوة والإكراه فقط، بل أيضًا من خلال قدرة الطبقة الحاكمة على فرض أفكارها وقيمها على المجتمع ككل، بحيث تبدو هذه الأفكار "طبيعية" و"بديهية" بالنسبة للجماهير. كما ان غياب ثقافة سياسية مدنية قوية، وافتقار الشعب إلى الوعي الفلسفي والسياسي الضروري للمطالبة بالحقوق والحريات جعل الناس يتجنبون التعبير عن آرائهم.

***

غالب المسعودي

........................

* أنطونيو غرامشي (1891-1937) مفكرًا سياسيًا، ومؤلفًا إيطاليًا. ويُعد من أبرز الفلاسفة السياسيين في القرن العشرين. وُلد في 22 يناير 1891 في مدينة أليس في سردينيا بإيطاليا لعائلة متواضعة. عاش طفولة صعبة بسبب الفقر والمرض، حيث أُصيب بمرض في عموده الفقري أدى إلى تشوه جسده وجعله يعاني من قصر القامة وآلام مزمنة طوال حياته. وعلى الرغم من هذه التحديات الصحية، كان غرامشي طالبًا متميزًا، واستطاع الالتحاق بي كلية الآداب بجامعة تورينو، حيث درس الفلسفة والتاريخ. وعمل ناقدًا مسرحيًا في عام 1916م.

في المثقف اليوم