قضايا

نجم السراجي: مَقاماتُ الرَّمزِ في فَلسفةِ إخوانِ الصَّفا

"إخوانُ الصَّفا وخِلّانُ الوَفا"... حِكايةٌ تَتَجَدَّدُ، مَوصولةٌ بِفِكرٍ يُضيءُ الدُّروبَ، وعَطاءٍ لا يَنضُبُ، اتَّخَذوا مِنَ الكِتمانِ سَبيلاً، فالأثَرُ يَشي بِالمُرادِ، والسِّرُّ نورٌ لا يُرَى، يَنتَشِرُ كالفَجرِ بِصَمتٍ وحِكمةٍ.

حِكايةٌ انبَعَثَت مِن أَعماقِ الذّاكرةِ، في زَمَنٍ ازدهَرَت فيهِ الحَرَكةُ الفِكريّةُ وآدابُ التَّرجَمةِ، واختَلَطَتِ المَفاهيمُ والأَفكارُ، وتَداخَلَتِ الظِّلالُ والأَنوارُ، وتَشابَكَتِ الأَسئِلةُ مَعَ الصَّمتِ، لِتَحوكَ أَيادي القَدَرِ في خَفاءِ اللَّيالي، ذلِكَ النَّسيجَ المُعجِزَ المُوسوعيَّ لإخوانِ الصَّفا، مِن خُيوطِ الحِكمةِ والفِكرِ، في مَهبِطِ الأَنوارِ، لِيَسيرَ كَكوكبٍ يَتَلألأُ في ظُلمةِ الزَّمانِ، لا يُبصِرُ نورَهُ إِلّا مَن كانَ لهُ قَلبٌ، أَو أَلقى السَّمعَ وهوَ شَهيدٌ.

هُم... أُخوةٌ تَعاهَدوا على حُبِّ الإنسانِ والكَونِ والموسيقى والفِكرِ والعِلمِ والعَطاءِ، فأَصبَحوا إخوانًا في الصَّفا، وخِلّانًا في الوَفا، ونَهرًا للحِكمةِ، وشُركاءَ في الحُلمِ والمَصيرِ. ارْتَقَوا بِوَجدِهِم وعِلمِهِم وفِكرِهِم، واجتَهَدوا ودَوَّنوا، لِيُوقِظوا الطَّلبَ والقَصدَ في النُّفوسِ، والسَّعيَ إلى الحِكمةِ والحَقيقةِ.

فَعَرَّت رَسائِلُهُم زَيفَ المُتاجِرينَ بالدِّينِ والعَقيدةِ، ورَفَعَت هالةَ القُدسيّةِ المُزيَّفةِ عنهُم، وأَطلَقَت شَرارةَ الحِكمةِ، لِتُعيدَ لِلكَونِ تَوازُنَهُ، فَحُورِبوا، واتُّهِموا بالزَّندقةِ والانحِرافِ زُورًا وبُهتانًا، ونُسِيَت حِكايتُهُم عَمدًا وقَهرًا، لأَنَّها قَدَّمَت العَقلَ والمَنطِقَ والعِلمَ والمَحبّةَ والوِئامَ، على فِكرٍ مُتَعَصِّبٍ أَعمى، أُريقَت بِسَبَبِهِ الدِّماءُ.

هُم نُخبةٌ رَمَت أَثقالَ التَّعصُّبِ والتَّفَرُّقِ والجُمودِ، وانْدَفَعَت بِوَعيِ العارِفِ، لا عَبَثًا ولا بَطَرًا، بِأَشرِعةِ الحِكمةِ والمَعرِفةِ والفِكرِ المُتَجَدِّدِ، في الشَّواطِئِ القَريبةِ والبَعيدةِ، بَحثًا عنِ الحَقيقةِ، لِيَقينِهِم بِأَنَّ أَمواجَ الدُّهورِ سَتَحمِلُها إلى شَواطِئِ الغَدِ، مَهما امتَدَّ الأَمَدُ وطالَ المَقامُ.

ويَقينُهُم بِأَنَّ النُّخَبَ الفِكريّةَ المُستَقبليّةَ، سَتُعيدُ قِراءةَ مَشروعِهِم، لا بِوَصفِهِ أَثَرًا جامِدًا عَفَى عليهِ الزَّمَنُ، بَل كَحَرَكةٍ فِكريّةٍ حيّةٍ مُتَجَدِّدةٍ، تَتَحَدّى الصُّعوباتِ، وتَستَنهِضُ العُقولَ، وتَفتَحُ آفاقًا جَديدةً لِفَهمِ الإنسانِ والكَونِ والدِّينِ.

فَكَسِبوا الرِّهانَ، وانْتَشَرَ فِكرُهُم، وامتَدَّ لِيَتَجاوَزَ مَركَزَهُم في البَصرةِ إلى بَغدادَ والأَندَلُسِ، ومَلأَت فَلسَفَتُهُم ورُؤاهُم فيما بَعدُ أَرجاءَ العالَمِ، لِتَشْبَعَ بَحثًا وتَحقيقًا.

فَلِيُقالَ لِمَن يَبحَثُ عن جَواهِرِ الحِكمةِ: أَغرِقْ في بُحورِ رَسائِلِهِم، عَلَّكَ تَظفَرُ بِلُؤلُؤةِ التَّوحيدِ، ونَواميسِ الفِكرِ، ومَنطِقيّةِ الحُجَجِ، لِتَحقيقِ استِنتاجٍ صَحيحٍ ومُقنِعٍ، وقَطفِ ثِمارِ الحِكمةِ، فَلا يَقطِفُ ثِمارَها إِلّا مَن أَحاطَ بِآفاقِ المَعنى، وسَعى لِبِناءِ الجُسورِ بَينَ شُطآنِ المَعرِفةِ.

لا يَنظُرُ إخوانُ الصَّفا إلى الكَونِ بِوَصفِهِ مادّةً صَمّاءَ، بَل كَكائِنٍ حيٍّ نابِضٍ بِالعَقلِ، يَتَكَلَّمُ بِالحَرَكةِ، ويُشيرُ بِالرَّمزِ، ويَتَنَفَّسُ بِالحِكمةِ، تَتَداخَلُ فيهِ الحَرَكاتُ السَّماويّةُ مَعَ اهتِزازاتِ النَّفسِ، وتَتَماهى فيهِ الحُروفُ مَعَ الأَفلاكِ، والعَدَدُ مَعَ الوُجودِ.

فَقالوا:

"اعلَم أَنَّ العالَمَ كُلَّهُ بِجُملتِهِ جِسمٌ واحِدٌ حيٌّ ناطِقٌ، مُتَحَرِّكٌ بِالإرادةِ، مُدَبَّرٌ بِالحِكمةِ، مُتقَنٌ بِالصِّناعةِ، مُحكَمٌ بِالتَّقديرِ."

"وَكُلُّ حَرَكةٍ فَلَكيّةٍ هي إِشارةٌ إلى تَحوُّلٍ داخِليٍّ، وَكُلُّ مَدارٍ يُحاكي دَرَجةً مِن دَرَجاتِ النَّفسِ."

وهذا نُضجٌ يَدعو إلى التَّصريحِ بِأَنَّ فَهمَ الكَونِ لا يُختَزَلُ على ما يُرى فَقط، بَل على ما يُفهَمُ مِن استِنباطِ حَرَكةِ الأَفلاكِ وانتِظامِها، وما يُقرَأُ مِن إِشاراتِها. فَالمَظاهرُ الكَونيّةُ مَحكومَةٌ بِعِلَلٍ ونَواميسَ، وانتِظامُها يُنذِرُ بِعِلّةٍ، والفَلسَفةُ لا تُقصي ظَواهِرَ الكَونِ، بَل تَبدأُ مِنها لِتَكشِفَ عِلّتَها والغايَةَ.

ومَن يَتَأمَّلِ الكَونَ بِبَصيرَةِ العارِفِ المُطَّلِعِ، سَيَرى نِظامًا مُتكامِلًا، يَتَنَفَّسُ كالأَحياءِ، ويَرى في كُلِّ حَرَكةٍ غايَةً وعِلّةً ودِرايَةً، وإِشراقًا مِن نورِ الحَقيقَةِ، ونَاموسًا يَنطِقُ بِالحِكمةِ، كَكِتابٍ مَكشوفٍ، تُقرَأُ صَفَحاتُهُ بِالإِدراكِ، وتُفَكُّ شِفراتُهُ بِالمَنطِقِ والمَعرِفةِ والتَّأمُّلِ.

فَتَرَقّي الأَرواحِ، وسَعيُ النُّفوسِ نَحوَ الكَمالِ والمُطلَقِ، يَكتَمِلُ في التَّفكُّرِ وفَهمِ الخَلقِ، ويُدرَكُ بِطَلَبِ العِلمِ والمَعرِفةِ، والتَّفَنُّنِ في عُلومِ الفَلَكِ. وهذا التَّصوُّرُ يَتَقاطَعُ مَعَ المَفاهيمِ المَندائيّةِ، الَّتي تَرى في الكَواكِبِ أَرواحًا نورانيّةً تُرشِدُ النَّفسَ في عُبورِها مِن الظُّلْمَةِ إلى النُّورِ، ويَتَقاطَعُ كَذلكَ مَعَ المَفاهيمِ الزَّرادُشتيّةِ، الَّتي تُدخِلُها في صِراعٍ أَزَليٍّ بَينَ "أَهورا مَزدا" (إِلهِ الكَونِ وخالِقِهِ)، و"أَنگرا ماينيو" (قُوَى الشَّرِّ).

أَمّا الصُّوفيّةُ، فَيَرَونَ في الأَفلاكِ مَرايا لِحَرَكةِ النَّفسِ، وفَضاءً لِلكَشفِ، ومِرآةً لِلذَّوقِ، وسَببًا لِلقُربِ. كَما قالَ ابنُ الفارِضِ:

"ولِلرُّوحِ أَفلاكٌ تَسيرُ بِنورِها، كَما تَسري الكَواكِبُ في الدُّجى."

مِن خِلالِ هذهِ الرُّؤى، يُمكِنُ لِلمُتَتَبِّعِ فَهمَ فَلسَفةِ إخوانِ الصَّفا لِلكَونِ، وأَن لا يُنظَرَ إِلَيهِ بِوَصفِهِ مادّةً صَمّاءَ، بَل كَكائِنٍ حيٍّ نابِضٍ بِالرُّموزِ، تَتَماهى فيهِ الحُروفُ مَعَ الأَفلاكِ، والعَدَدُ مَعَ الوُجودِ، حَيثُ الوَاحِدُ هوَ الابتِداءُ، وهوَ الأَصلُ الَّذي مِنهُ تَتَفَرَّعُ الكَثرةُ، وهوَ رَمزُ الوَحدةِ الإِلَهيّةِ.

والاثنانِ هوَ الانقِسامُ، وهوَ ظُهورُ التَّمايُزِ وبِدايةُ التَّفاعُلِ والانقِسامِ، والثَّلاثةُ هوَ التَّكوينُ، وهوَ اجتِماعُ المُتَقابِلَينِ في وَسَطٍ جامِعٍ، والأَربَعةُ هوَ التَّمامُ، وهوَ العَناصِرُ الأَربَعةُ، وهوَ الجِهاتُ، وهوَ التَّوازُنُ.

كما قالوا:

"اعلَم أَنَّ العَدَدَ أَصلُ المَوجوداتِ، ومَبدَأُ الكائِناتِ، وبهِ تَنتَظِمُ الأُمورُ، وتُعرَفُ المَقاديرُ."

وهكذا يُصبِحُ العَدَدُ تَرتيبًا وُجوديًّا، يَكشِفُ عن نِظامِ الكَونِ، ومَبدَأٍ لِلأَشياءِ.

وهكذا تَظهَرُ إِشاراتُهُم الفَلسَفيّةُ بِأَنَّ لِلكَونِ "نِظامًا مُتَناسِقًا"، وإنَّ المُوسيقى نَغمَةُ الوُجودِ، وكُلُّ نَغمَةٍ هيَ صَدىً لِاهتِزازٍ فَلَكيٍّ يُحاكي نُفوسَنا، ويُؤثِّرُ فيها، فَتَستَجيبُ بِالحُزنِ أَو السَّعادَةِ والانشِراحِ.

ومَعاني الحُروفِ ودَلالاتُها تَشرُقُ بِتَرتيبِها ضِمنَ نِطاقٍ ونِظامٍ مَعلومٍ، كَما هوَ الحالُ بِانتِظامِ حَرَكةِ النُّجومِ، وحِسابِ حَرَكَتِها، وخُصوصيّةِ أَحكامِها، فَكُلُّ حَرفٍ يَحمِلُ دَلالَتَهُ الكَونيّةَ.

فـ"الأَلِفُ" مَثَلًا يُشيرُ إلى البِدايةِ، و"الياءُ" هيَ النِّهايةُ، وبَينَهُما تَتَشَكَّلُ رِحلَةُ الوُجودِ بِكُلِّ تَعقيداتِها وآفاقِها وإِشكالاتِها.

وكَثيرةٌ هيَ دَلالاتُ الحُروفِ والأَسماءِ، ومِن هذهِ الدَّلالاتِ ما يُشيرُ إلى الذّاتِ والصِّفاتِ والأَفعالِ، وبهذهِ الدَّلالاتِ تُصبِحُ اللُّغةُ كَشفًا، وبُنيَةً مَعرفيّةً، وأَداةَ تَواصُلٍ، ووَسيطًا كَونيًّا، تُشفَّرُ فيهِ الأَسرارُ.

وهوَ فَهمٌ يَتَماهى مَعَ الرُّؤيةِ الصُّوفيّةِ، الَّتي تَرى في اللُّغةِ حِجابًا لا يُكشَفُ إِلّا بِالإِشارةِ، كما تقولُ الباحِثةُ فَريدةُ مولى:

"أَسقَطَ المُتَصوِّفةُ الوَظيفَةَ التَّعبيريّةَ النَّقليّةَ لِلُّغةِ، وَلَقَّحوها بِرُموزٍ وتَلوِيحاتٍ، قَصدَ التَّعبيرِ عنِ الأَسرارِ الإِلَهيّةِ، الَّتي لا تَقوى اللُّغةُ العاديّةُ على الإِخبارِ عنها."

وكَما يقولُ ابنُ عَربين:

"الحُروفُ أَعيانُ المَوجوداتِ، وكُلُّ حَرفٍ يَدُلُّ على مَرتَبَةٍ مِن مَراتِبِ الوُجودِ."

مَفهومُ الحَياةِ والمَوتِ مِنَ المَفاهيمِ المُهِمَّةِ الجَوهريَّةِ الَّتي تَحدَّثَ عنها "إخوانُ الصَّفا"، فَقَسَّموا الحَياةَ إلى حَياةٍ جَسديَّةٍ، وهيَ عَرضيَّةٌ ومُؤقَّتَةٌ، وحَياةٍ نَفسيَّةٍ، وهيَ حَياةٌ جَوهريَّةٌ وأَبديَّةٌ، بِانفِصالِ النَّفسِ عنِ الجَسَدِ، وانتِقالِها إلى حَياةٍ أَبديَّةٍ رُوحانيَّةٍ خالِدَةٍ، بَعدَ التَّخلُّصِ مِن قُيودِ الجَسَدِ ومُتَطَلَّباتِهِ.

فَالحَياةُ عندَهُم وُجودٌ، ونُطقٌ بِالحِكمةِ، وتَجلٍّ لِلمَعنى، وسُلوكٌ نَحوَ الكَمالِ. وفَهِموا المَوتَ على أَنَّهُ عُبورٌ وانتِقالٌ مِن حالٍ إلى حالٍ، ومِن ظاهِرٍ إلى باطِنٍ.

كما قالوا:

"فَإِذا فارَقَتِ النَّفسُ الجَسَدَ، صَعِدَت إلى عالَمِ الأَفلاكِ، حَيثُ النُّورُ والصَّفاءُ."

وهذا يَلتَقي مَعَ الرُّؤيةِ البوذيَّةِ الَّتي تَرى في المَوتِ مَرحَلَةً في دَورةِ "سامسارا"، ومَعَ التَّصوُّفِ الَّذي يَعتَبِرُه كَشفًا، وعَودَةً إلى الأَصلِ.

أَمّا مَفهومُ التَّأمُّلِ، فَلَهُم فيهِ جَميلُ الرَّأيِ، واستِنباطُ المَعنى، وإيجادُ الرَّمزِ، وإِتقانُ الفَهمِ. فَوَصَفوهُ على أَنَّهُ إِصغاءٌ لِلكَونِ، وقِراءةٌ لِلرَّمزِ، حينَ يَتَجاوَزُ التَّفسيرَ إلى التَّأويلِ، وتَحفيزٌ لِلرُّؤيا، وامتِدادٌ لِلخَيالِ، وذَوقٌ لِفَهمِ الحَقيقَةِ، وتَمييزٌ لِلظَّاهِرِ وهوَ القِشرَةُ، عنِ الباطِنِ وهوَ اللُّبُّ.

كما قالوا:

"إِنَّ المَعاني لا تُدرَكُ إِلّا بِالتَّأمُّلِ، ولا تُفهَمُ إِلّا بِالتَّدبُّرِ، ولا تُذاقُ إِلّا بِالتَّصفِيَةِ."

وهذا يَلتَقي مَعَ التَّصوُّفِ، ومَعَ الفَلسَفةِ الباطِنيَّةِ، ومَعَ الرُّؤيةِ الأَفلاطونيَّةِ الَّتي تَرى في التَّأمُّلِ طَريقًا إلى عالَمِ المُثُلِ. فَالتَّأمُّلُ عندَهُم نَشاطٌ عَقلِيٌّ يُطَهِّرُ النَّفسَ، ويُهَيِّئُها لِلكَشفِ، ويَرتَقي بِها إلى المَقامَاتِ الرُّوحيَّةِ.

لَم يَشفَعْ لِإخوانِ الصَّفاِ اعتمادهُم الرَّمزيَّةَ، وإِعادةَ تَشكيلِ النُّصوصِ والظَّواهِرِ بِلغةِ الإِيحاءِ والإِشارةِ والتَّأويلِ، ولُغةٍ لا تُخضِعُ نَفسَها لِسُلطَةِ النَّصِّ، فَعَمِلوا بِسِرِّيَّةٍ عالِيَةٍ، كَنَوعٍ مِن الحِمايَةِ لِلنَّفسِ، خَوفًا مِن بَطشِ السُّلطةِ، وسَيفِ الفَتوى الدِّينيَّةِ.

فَهُم يُدرِكونَ خَطَرَ فِكرِهِم، ويُراوِغونَ السُّلطةَ بِلغةِ الرَّمزِ، ويُخفونَ المَعنى تَحتَ سِتارِ التَّأويلِ، حتّى صارَت دَعوَتُهُم وفِكرُهُم وفَلسَفَتُهُم ولُغَتُهُم ورَسائِلُهُم مَصدرَ إِزعاجٍ وتَهديدٍ لِلمُؤسَّساتِ الدِّينيَّةِ والسُّلطةِ الحاكِمَةِ، الَّتي لَم تَستَقبِلهُ بِوَصفِهِ اجتِهادًا مَعرفيًّا، بَل ذَهَبَت إلى اعتِبارِهِ تَهديدًا مُباشِرًا ومُربِكًا لِلمَنهَجِ.

وقد أَشاروا هُم أَنفُسُهُم إلى هذا الحَذَرِ، فقالوا في إِحدى الرَّسائلِ:

"فَإِنّا قد رَمَزنا في كُتُبِنا، وأَخفَينا المَعاني، وأَودَعناها تَحتَ الأَلفاظِ، خَوفًا مِن أَهلِ الجَهلِ، وحَذَرًا مِن أَهلِ الجَدلِ."

أَمّا مَفهومُ وَحدةِ الوُجودِ عندَ "إخوانِ الصَّفا"، فَقَد تَجلّى في قَولِهِم:

"العالَمُ كُلُّهُ بِجُملتِهِ جِسمٌ واحِدٌ حيٌّ ناطِقٌ."

وهيَ رُؤيةٌ تُقارِبُ التَّصوُّفَ الإِسلاميَّ، وتُعيدُ تَشكيلَ العَلاقَةِ بَينَ الخالِقِ والمَخلوقِ، دونَ أَن تُذيبَ الفَوارِقَ، بَل تُظهِرَ التَّناغُمَ.

وكَذلكَ فَإِنَّهُم مَنَحوا مَفهومَ "الفَناءِ" مَقامًا رُوحيًّا، وغايَةً لِلنَّفسِ في سَعيِها نَحوَ الكَمالِ، بِعودَتِها إلى المُطلَقِ، وذَوبانِها في النُّورِ، وهوَ مُقارِبٌ لِفَهمِ التَّصوُّفِ لِمَفهومِ "الفَناءِ"، والاختِلافُ في اللُّغةِ الفَلسَفيَّةِ والرَّمزيَّةِ.

أَمّا مَفهومُ "العُبوديَّةِ" عندَهُم، فَهوَ مُختَلِفٌ بِشَكلٍ جَذريٍّ عن مَفهومِهِ عندَ بَقيَّةِ الطَّوائِفِ الإِسلاميَّةِ والأَديانِ، فَهوَ عندَهُم لَيسَ خُضوعًا، بَل تَحرُّرًا. فَالعَبدُ الحَقيقيُّ هوَ مَن عَرَفَ نَفسَهُ، ومَن سَلَكَ طَريقَ الحِكمةِ، ومَن تَحرَّرَ مِنَ الجَهلِ والهَوى.

يَقولونَ:

"الحُرُّ مَن مَلَكَ نَفسَهُ، والعَبدُ مَن مَلَكَتهُ شَهوَتُهُ."

ولَم يَعتَبِروا "العَدلَ والمُساواةَ والإِحسانَ" مُجرَّدَ قِيَمٍ اجتِماعيَّةٍ، بَل قَوانينَ كَونيَّةً، مَربوطَةً بِالحِكمةِ الإِلَهيَّةِ، فَكُلُّ شَيءٍ في الكَونِ يَتَحَرَّكُ ضِمنَ نِظامٍ عادِلٍ، وكُلُّ نَفسٍ تُحاسَبُ بِحَسَبِ استِعدادِها، وكُلُّ مَقامٍ يُعطى بِحَسَبِ قابليَّتِهِ.

أَمَّا "العالَميَّةُ"، فَهيَ مُرادُهُم وخِطابُهُم: "إخوانُنا في اللهِ"، دونَ تَحديدِ مَذهَبٍ أَو قَوميَّةٍ.

يَقولونَ:

"فَإِنَّا قد نَظَرنا في جَميعِ الكُتُبِ، واطَّلَعنا على عُلومِ الأُمَمِ، وأَخَذنا مِن كُلِّ عِلمٍ أَحسَنَهُ، ومِن كُلِّ مَذهَبٍ أَصفا.

***

نجم السراجي

مدير ومؤسس مجلة ضفاف الدجلتين

 29.09.2025

في المثقف اليوم