قضايا

تركي لحسن: ما الثقافة؟

كثيرا ما نتساءل عن أهمية الثقافة بالنسبة للمجتمع، وإلى أي حدّ نحن في حاجة إليها؟ والإجابة على هذه الأسئلة تستدعي أولاً أن نحدد ما الذي نقصده بـ "الثقافة"؟ فهل هي مجموع المنتجات الأدبية والفنية، أم هي مجرد آليات ووسائل للتسلية والترفيه، أم هي مشروع مجتمعي يسعى لتحقيق الكمال الإنساني من خلال التنشئة الاجتماعية والتربية والتعليم؟

تناول ماثيو أرنولد قد في كتابه الثقافة والفوضى فكرة القلق والتوتر الاجتماعي الذي هدد، حسب رأيه، إنجلترا الفيكتورية بسبب موجة التصنيع وانتشار تيار الفردانية اللذان وصفهما بمصطلح " الفوضى"، داعيا إلى السعي وراء الثقافة الذي يهدف، حسب رأيه، إلى تحقيق الكمال الإنساني، وهو لا يرى في الثقافة مجرد مجموعة من الإنجازات الفنية والفكرية أو ترف فكري، بل مشروع مجتمعي يسعى نحو التميّز المستمر لجميع جوانب الحياة من خلال العمل المستمر على تحسين وصقل الطبيعة البشرية. فهو، بالتالي، يضع الثقافة في مقابل الفوضى ويجادل في أن التغيّر الذي طرأ على المجتمع الإنجليزي بعد الثورة الصناعية مآله الفوضى والاختلال الاجتماعي، ولابد، لتفادي هذا الخطر الذي يقوِّض التماسك الاجتماعي، تبّني المقاربة الثقافية التي تجمع بين التقدير الجمالي والفني الذي يٌثري التجربة الإنسانية من خلال ترقية وتنمية ملكة التذوق الفني، والذي يطلق عليه (الحلاوة)، وبين السعي وراء المعرفة والتطور الفكري والفهم العقلاني الذي يصفه بـ (النور).

و يقول المفكر مالك بن نبي: "الثقافة هي حياة المجتمع التي بدونها يصبح مجتمعا ميتا". فالثقافة بهذا المعنى هي كما يقال ما يجعل الحياة جديرة بأن تعاش، الثقافة تحمي من الضياع وتُضفي المعنى على حياة الناس من حيث كونها رؤية متكاملة للكون وللعالم، وتمنح المجتمع خطابا متماسكا وسردية لا يشوبها خلل ولا تناقض.  لكنها لا يمكن أن تقوم بهذه الوظائف داخل منظومات لا تؤمن بها، ولا تتعدى حاجتها إليها إلا بقدر ما يحتاجه المرء إلى شيء من الراحة والمتعة.

كثيرا ما نخطأ حينما نعتقد أن الثقافة هي فقط المنتجات الفنية والأدبية للأفراد، أو ما نسميه الإبداع الفني، لأن الثقافة في حقيقة الأمر هي العوامل النفسية والاجتماعية التي تساعد وتلهم وتؤطر الإنتاج الثقافي والحضاري. يقول برهان غليون في كتابه اغتيال العقل: "الثقافة تُلّخص تجربة المجتمع ووعيه بذاته وبمحيطه، فهي تشكل نافذة يطل منها الباحث على كل نواحي الحياة العلمية والسياسية والاقتصادية والروحية للمجتمع". فالثقافة بهذا المفهوم هي منظومة القيم والمعتقدات والمفاهيم والتصورات التي تحكم سلوك الأفراد وتوجه ممارساتهم. وإذا كنت قد اخترت توصيف ماثيو أرنولد للثقافة فلأنه، في اعتقادي التعريف الوحيد الذي أماط اللثام عن حقيقة هذا المصطلح الغامض والفضفاض، والذي كثيرا ما يُشعر سامعيه بنوع من التيه والغموض، ما يجعلهم يقبلونه على مضض تماما كما سلّم عامة الناس بصحة النظرية النسبية لآينشتاين وهم أشدّ جهلا بها.

فالطبيب مثقف، والمنهدس مثقف، والأستاذ، في جميع تخصصاته، مثقف، والمحامي مثقف، والقاضي مثقف، والعالم مثقف، والإمام مثقف... إلا أن مهام كل هؤلاء، بوصفهم مثقفين، تقتضي منهم عدم الوقوع في فخ الأدلجة وتزييف الواقع لصالح أي سلطة لا يهمها إلا المحافظة على مصالح الأقلية الحاكمة والمتحكمة. من هنا تغدو الثقافة عدو للفوضى ومناقض لها، فهي الحصن الذي يحمي المجتمع من الوقوع في جحيم الفوضى وغياب المعنى، كما أنها، في الوقت ذاته، هي المنظومة القيمية التي تعيد تشكيل البراديغمات والخطابات حين يتحولون إلى وسائل في يد القوى التي تسعى إلى الهيمنة من أجل مصالحها.

ما نعتقده أو نسميه ثقافة هو جزء منها فقط، الإبداع الفني والأدبي وحماية التراث هو الشّق الذي يساعدنا على المحافظة أو إعادة بعث قيم التضامن والتراحم والعيش بانسجام، وهو ما يسميه ماثيو آرنولد بـ "الحلاوة". أما الابداع الفكري والعقلي فهو الشّق الذي يمكننا من انتاج هذه القيم أو إعادة تكييفها مع ما يطرأ على المجتمع من تحولات وتغيرات، وهو ما أطلق عليه مفكرنا، سابق الذكر، بـ "النور".   يقول علي عزّت بيغوفيتش: " الثقافة هي الخلق المستمر للذات، أما الحضارة فهي التغير المستمر للعالم"، فهي في نظره الألية التي تسمح للمجتمع بخلق وإعادة خلق القيم التي تساعده على المحافظة على ذاته السوية وحمايتها من الانسلاخ.

الثقافة هي التي تمنحنا رؤية موحدة للحياة، رؤية متماسكة قادرة على استيعاب كل الاختلافات والفوارق. ولن تتأتى هذه الرؤية إن لم تكن شاملة لكل مناحي الحياة، رؤية كما قال مالك بن نبي تجمع بين الطبيب المتخصص وبين راعي الغنم في بوتقة فهم شامل لمعنى الحياة. يقول محمد شوقي الزين: " الثقافة من حيث أنها رؤية في الحياة توفر للذات أدوات الزرع والحصاد بالاشتغال على ذاتها عبر التربية والاستطلاع والفضول المعرفي، أي كل التدابير والأساليب التي من شأنها أن توصلها إلى الظفر بالسعادة".

لا يمكن للثقافة أن تنجح في تحقيق هذا المسعى إذا كان المجتمع يجهل ماهيتها الحقيقية ودورها ومدى حاجته إليها. لم يكن وزير الدعاية في الحزب النازي يكره المثقفين إلا لأنه كان يدرك حقيقة الثقافة فهو الذي أشتهر بمقولته العجيبة: " كلما سمعت كلمة مثقف تحسست مسدسي". فالثقافة الحقيقة ترعب الأنظمة الشمولية والدكتاتورية ولا تخدمها، فإذا كانت الثقافة تسعى لتحقيق الانسجام من خلال المساواة والعدالة، فهذه الأنظمة تقهر شعوبها لا من أجل الحفاظ على النظام، بل لأجل الحفاظ على السلطة.

إذا كانت الثقافة تمتلك كل هذه القدرات، فلماذا لا نحسن استغلالها ونجعل منها قاطرة تُخرجنا من مأزق التخلف وتحملنا إلى برّ الأمان؟ لا أعتقد أن أولئك الذين يُحّجمون الثقافة يؤمنون بقيمتها ولا حتى يسعون لذلك، لأن الثقافة في عرفهم لا تعدو مجرد مصدر من مصادر العيش يقتات منه العاملون في حقل الابداع  الفني والأدبي من خلال ما يحصلون عليه من بقايا الريع. ولكي تصمت الأصوات التي تتشدق بقيمة الثقافة وضرورتها، دون أن تعرف معناها الحقيقي، تُقايض بمقابل مادي تبيع بدلا منه المنتج الثقافي في سوق النخاسة، فتثبت بذلك فرضية هؤلاء القاضية بأن الثقافة لا معنى لها ولا قيمة، أو أنها شيء مبهم وغامض ولسنا في حاجة لفكّ الغازه.

***

د. تركي لحسن

........................

المراجع:

ماثيو آرنولد، الثقافة والفوضى

مالك بن نبي، مشكلة الثقافة

علي عزت بيجوفيتش، الإسلام بين الشرق والغرب

برهان غليون، اغتيال العقل، محنة الثقافة العربية بين السلفية والتبعية

محمد شوقي الزين، الثقاف في الأزمنة العجاف، فلسفة الثقافة في الغرب وعند العرب

في المثقف اليوم