قراءات نقدية

جمعة عبد الله: المعاناة في الواقع المستحيل

في المجموعة القصصية (حقيبة الأمنيات) لمحمد جبر حسن

تتناول هذه المجموعة القصصية، عوالم مختلفة ومتناقضة في نفس الوقت، تسلط الضوء على عوالم العتمة في واقع هش وجاف، تنبت فيه ثعابين الهواجس القلق والاحباط، تصب مجاريها في معاناة الإنسان وحرمانه من تحقيق الأمنيات التي يتطلع اليها، أو التي تلهب في داخل شعور الذات، في واقع غير عادل في معاييره وموازينه، السرد يملك رؤية في المعنى والرمز الدال في مدلولاته، في حكايات ذات إيقاع في مفردات الوجود، التي فقدت بوصلتها، ووضعت الإنسان في مهب الريح، ان يغوص في الفانتازيا الواقع، أو يصارع عوالم كافكا في تهميش الانسان، وجعل حياته هامشية في الخيبة والانهزام، والمجموعة القصصية تدخلنا بمفهود السرد الواسع في تناوله وطرحه، يتجاوز الحكايات التقليدية، تخلق في طياتها ابتكار في صياغة الشكل والمضمون، تصاحبها رؤية فكرية دالة، تحركها وتسيرها في المعنى والمغزى، والتي تناقش ذهنية القارئ، في التفكير والتأمل، في مسألة في غاية الاهمية، هي محاصرة الانسان في شرنقة ضيقة جداً، وتصبح الامنيات بحكم المستحيل، أو تلعب بها الريح من كل جانب وصوب، رغم ان الحقيبة مليئة بالامنيات والطموحات، وان مفهوم الحقيبة يعني الانسان مهما كان مسحوقاً ومعدماً في شظف العيش لايخلو من الامنيات بالجملة، لكنها تجد جداراً مانعاً لا يسمح بعبورها، يعني روحية الإنسان تعيش على الامل المعلق، رغم انه يغوص في الاحباط الاحباط والخيبة، ويجد نفسه يغوص في العجز والفشل، إزاء متغيرات التي تخلقها الحروب العبثية والإرهاب الشمولي (أن للحيطان أذان) ويمكن ان تكون جريمة يفقد الانسان حياته، اذا اخترق هذه الحواجز، أو أنه بلا شك يضيع في زنازين الموت، هذه المأساة الوجودية، التي تتناولها بعمق هذه النصوص السردية، وهي تتناول مسائل جوهرية في الحياة والوجود، والامنيات لا تجد موضع قدم، في واقع يتاجر في التناقضات الصارخة، لا يمكن للمرء مجاراتها. في واقع فانتازي او كافكاوي، يتناول الكاتب في صدق إحساسه دون مجاملة، في هذه العناوين أو الأشياء في حياة الإنسان، أو في قطار العمر في السيرة الذاتية، للذين رحلوا، وظلوا أحياء في عقولنا وقلوبنا. الى الذين اخذوا قلوبنا وتركوا فينا الشوق والذكريات. كما جاء في الإهداء. يعني نحن في حكايات واقعية في واقع فنتازي، يختلط فيه الخيال والواقع، الوعي واللاوعي، البراعة في السرد هي تلقائية المنسابة المتدفقة، ولغتها الشفافة والسلسة، بحيث تجعل القارئ يعيد قراءتها مرات ومرات دون أن يشعر بالملل، بل يشعر بتعاطف الشديد، وحزن ووجع لهذه الشخوص المسحوقة من الأرض والسماء، تتوجع في ألم من الاخفاقات في تحقيق الأمنيات، التي دخلت في شرنقة المستحيل، بل تغرق في بحر الحياة الهائج و المتلاطم حتى تتفتت، في وطن تحول الى صحراء تذر فيه الرمال، و تربته غير صالحة للأمنيات... نوجز بعض أبعاد الرموز الدالة في بعض النصوص القصصية، رغم أن المجموعة القصصية، احتوت على 45 نصاً سردياً على صفحات 199 صفحة. وكل نص يحمل دلالات رمزية عميقة:

1 - نص: حقيبة الامنيات

الذي يحمل عنوان المجموعة القصصية. يدل أنه لايمكن تحقيق الأمنيات في أرض صحراء قاحلة ارضها رملية لا ينبت فيها عشب الامنيات، بل هي في حكم المستحيل، رغم انها حقيبة يعني عدد غير محدود من الأمنيات، لكنها تبقى مغلقة في واقع هش، وحياة هامشية لحياة المسحوقين. منسيون من الأرض والسماء رغم كدحهم ومعاناتهم القاسية، مثل هذا الرجل الخمسيني البائس والمحروم (سعيد) هذا التناقض الصارخ بين اسمه وحياته الشقية والجافة التي يتجرع سقمها كل يوم، يسكن في غرفة في فندق قديم متهالك، لا تدخله الشمس، إلا من خلال ثقوب شباك النافذة، يعاني لقمة العيش المر، فقد قدمه اليمنى جراء انفجار لغم في حروب الوطن العبثية، يحمل حقيبة الأمنيات أينما ذهب، يعاقر الخمرة ليواسي معاناته القاسية، وعندما فقدت الحقيبة، شعر أن حياته انتهت، ولم يعد له قيمة وجودية، فأنهى حياته بالانتحار، يعني الانسان بلا أمنيات موت بطيء وفعلي.

2- نص: حارس الأرواح المنسية

وطئت قدميه في أرض الغربة، رجل خمسيني حمل العراق معه بالذكريات والصور الحياتية العالقة في ذهنه، يعتمد في حياته على راتب الرعاية الاجتماعية، ولكن طلب منه أن يعمل في المقبرة في صيانة قبور الموتى لكنه اصطدم بالمفاجأة بأن بعض القبور تحمل أسماء موتى عراقيون ومنهم صديقه العزيز ابن محلته، فعمل على صيانة هذه القبور ووضع الزهور حولها وتنظيفها، كأنه واجب اخلاقي تجاه أبناء الوطن المغتربين، وسمي حارس الارواح المنسية حتى موته.

3 - نص: هدايا

انطفأت الأنوار وخففت ضوء الشموع، وغادر المدعوين الى الاحتفال بعيد الميلاد، وتركوا بقاياهم مكدسة في الصالة، بقايا الطعام والحلوى والمعجنات، والصحون، شعر بالتعب واخذ غفوة من النوم، تراءى له ضوء ينبثق من خلف ستارة النافذة، وكانت المفاجأة، راى وجه ابيه مبتسماً يتوجه اليه وهو يقدم ساعته اليدوية ويقول له (هذه هديتي لك) وبعدها تتقدم امه وهي تنزع من قلادتها ذات ثماني عشرة ليرة ذهبية، وتقدم له ليرة ذهبية واحدة وتقول له (هذه هديتي لك) يعني الذين رحلوا وأحدثوا شرحاً من الشوق والحنان في القلب، يظلون حاضرون في كل مناسبة.

4 - نص: غربة أخرى

وهي ترمز الى الذين قدموا عصارة جهدهم للوطن ورحلوا، ولكنهم وكرموا في اقامة نصب تذكاري لهم، ومنهم الشاعر (بدر شاكر السياب) لينزل من تمثاله ليتفقد أحوال الوطن والبصرة والناس بعد غيابه الطويل، ويأخذ سيارة تاكسي ويتجول في مدينته البصرة، يصطدم كأنه في مدينة غريبة عنه، ومكان غريب لم يألفه في حياته السابقة، ويتساءل أين البصرة والعشار والشناشيل؟ لماذا تمتلئ الشوارع والطرقات، باللافتات السوداء وصور الشهداء المعلقة في كل زاوية، اين استشهدوا؟ ولماذا هذه الأعلام الملونة الكثيرة، اين علم العراق؟، ولماذا هذه البنايات الإسمنتية، أين النخيل، ولماذا ولماذا ولماذا؟ يشعر بالحزن والجزع من الأهوال التي شاهدها، وما آلت إليها البصرة والعراق، ويعطي للسائق السيارة ورقة فيها ابيات شعرية بدلاً عن الأجرة. يقول فيها:

إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون

أيخون إنسان بلاده؟

إن خان معنى ان يكون

فكيف يمكن أن يكون؟

الشمس اجمل في بلادي من سواها، والظلام

حتى الظلام هناك أجمل

فهو يحتضن العراق.

5 -نص: اكتشاف

منذ فترة ليست بالقليلة، لكنه لم يعرف مدتها بالضبط، عندما يقوم من نومه في كل صباح، يشعر أن بعض اغراض البيت البسيطة ورخيصة الثمن تختفي، ولكن بمرور الايام اخذت اغراض البيت تختفي اكثر، حتى وصل الأمر بالأشياء الثمينة وباهظة الثمن، بدأ الخوف والهلع يدخل قلبه وهواجسه، حتى وصلت الامور، بأن غرفة النوم سرقت او اختفت بالكامل، حتى زوجته اختفت، وكانت نائمة في نفس السرير معه، وتناهى اليه صوت زوجته تدعوه إلى الاقتراب منها، وحين اقترب واشارت الى اطار الصورة القديمة، وحين تطلع فيها، وجد فيها فراغاً سحيقة ليس لها نهاية !! يعني السرقة تبدأ بأشياء صغيرة لا تثير الانتباه، أو لم نعير لها اهمية حتى تكبر حتى تنهب البيوت والاوطان.

6 - نص: فم مغلق

تعود ان يبتعد عن جميع الناس، وينزوي في عزلة تامة عن الكل، ان يعيش وحده لا يتكلم قط، مهما كانت الاسباب، يلوذ بالصمت والسكوت التام، مسترشداً بتعاليم والديه: (-اسكت... كلامك ليس هذا وقته) او (اسكت كلامك ليس محله.. اسكت لا تتكلم حتى لا يأخذك زوار الفجر يأخذوننا معك.. أسكت إن للحيطان آذان.. اسكت... اسكت)، حتى الرعب والخوف دخل قلبه وعقله، ويلوذ بالصمت كأنه اخرس، ولكن بعد سنوات وجدوا اسمه في سجلات احدى الدوائر الامنية. هذا يدل عن حجم إرهاب الدولة.

7 - نص: قادم الأيام

منذ طفولته وهو يرى أمه تبكي على كل شيء الصغيرة والكبيرة، كأنها رضعت من البكاء والدموع، منذ طفولتها وكبرت معها بالحزن والدموع، ومثل الامهات المتشحات بالثياب السوداء، ولا تبدلها مهما كأن الزمن، وحين سألها مرة عن سبب هذا البكاء الدائم في تساقط الدموع، قالت له بحزن (- اخاف عليك وعلى اخوتك في قادم الايام) لم يفهم معنى عبارتها، ولكن زاد بكائها وحزنها اكثر، عندما زادت النعوش القرابين للوطن، وادرك معنى الحزن والدموع، حين جلبوا جثمان شقيقه ملفوفاً بالعلم العراقي ذو النجمات الثلاث، عرف لماذا تخاف أمه عليهم في قادم الأيام، هذا الحزن العراقي نتيجة ويلات الحروب التي لم تتوقف في تاريخ العراق منذ الازل.

8 - نص: الصوت

وقع في حيرة عويصة، واخذت تنتابه الوساوس الخطيرة، بظنونه بأنه يشك بزوجته، انها تخونه وان اولاده الاربع ليس منه، نتيجة الفحص والتحليل، بأنه مريض لا يمكن أن ينجب اطفال، وبدفع من أهله، بان يقدم على قتلها بدون تردد، لانها تخونه، وان شرفه ملطخ بالعار له والى عائلته، ويدفعونه ان يغسل العار بدمها (أقتلها... أقتلها.. سوف لا يلومك أحد، الكل يعلم بخيانتها إلا أنت) وذهب الى المستشفى مرة اخرى، حتى يتأكد من نتيجة الفحص والتحليل لتكون حجة رسمية في يدييه حين يشرع بقتلها، وعندما وصل الى المستشفى اخبره الموظف المختص، بأنه أخذ نتيجة فحص وتحليل شخص آخر خطأ، نتيجة تشابه الأسماء، وأعطاه نتيجة الفحص والتحليل، بأنه سليم ليس لديه مرض. يعني في التسرع ندامة.

***

جمعة عبد الله

 

في المثقف اليوم