قضايا

عبد الله الفيفي: الثقافة في السُّعوديَّة.. رُؤى مستقبليَّة (2-2)

ذكرنا في المقال السابق أنَّ الأدب في المملكة العَرَبيَّة السُّعوديَّة هو امتداد للتراث الأدبي العَرَبي الذي منبعه الجزيرة العَرَبيَّة. وأنَّه قد مرَّ بمراحل تطوُّرٍ حتى وقتنا الراهن، تطرَّقنا إلى أبرز ملامحها. وأشرنا إلى أنَّ الرؤية المستقبليَّة تحدو الأمل إلى تفعيل الثقافة- وفي جوهرها الأدب- لتأخذ دَورها الحضاري محلِّيًّا وعالميًّا؛ فليس من المقبول أن تكون المملكة العَرَبيَّة السُّعوديَّة، بتاريخها الضارب في الذاكرة الإنسانيَّة على هامش الثقافات، أو أن تتعامل مع الثقافة رديفةً لشؤون أخرى. ويأتي تفعيل هذه الواجهة الحضاريَّة الخصبة وتنظيمها من حيث هي رافد رئيس من روافد التنمية وبناء الإنسان، وهي من أهم محرِّكات التحوُّل الوطني إلى المستقبل، وتحقيق رؤية 2030، وما بَعدها. ذلك أنَّ من ركائز القوَّة الأُولى في رؤية المملكة 2030: الاهتمام بالعُمق العَرَبي والإسلامي. ومن توجُّهات المحور الأوَّل في الرؤية، الذي يدور حول حيويَّة المجتمع: دعم الثقافة، وبناء الشخصيَّة. وفي الأهداف الاستراتيجيَّة لهذا المحور يأتي تعزيز القِيَم الإسلاميَّة والهويَّة الوطنيَّة. وذلك من خلال المحافظة على تراث المملكة الإسلامي والعربي والوطني والتعريف به، والعناية باللُّغة العَرَبيَّة. ومن ضمن الأهداف الاستراتيجيَّة كذلك: تمكين حياة عامرة وصحيَّة، بوسائل منها: دعم الثقافة والترفيه، ومن ذلك تنمية المساهمة السُّعوديَّة في الفنون والثقافة. ومعلومٌ أنَّ الأدب يُعَدُّ القاسم المشترك الأعظم بين تلك الأهداف الاستراتيجيَّة لمحور حيويَّة المجتمع، بالنظر إلى موقعه الجوهري في بناء القِيَم والهويَّة، ولكونه وعاء اللُّغة والتراث والثقافة، وهو فوق ذلك بمثابة الأب للفنون الأخرى، قديمًا وحديثًا. فمن نافلة القول أنَّ إيلاء الأدب ما يستحق من رعاية، ودعم الأدباء، وتنظيم شؤونهم من خلال جهازٍ مرجعيٍّ واحد، هو من آليَّات العمل الأساس لتحقيق الرؤى الثقافيَّة المستقبليَّة. 

غير أنَّنا أومأنا إلى نقاط قصور، نراها ما زالت قائمة دون أن تحقق الرؤية الثقافيَّة أهدافها المُثلى:

1- إنَّ الأديب منذ ارتضى الأدبَ حرفةً، يدرك أنَّ «حرفة الأدب ستُدرِكه»! فلا ينبغي أن يعوِّل في حِراكه الإنتاجي على آخَر! غير أنَّ ثمَّة جوانب تنظيميَّة، وأبعادًا إنسانيَّة، يؤمَّل أن يكون للجهاز التنظيمي دورٌ مهمٌّ في رعايتها ودعمها وتنميتها. وقد كان من المبادرات التي انبثقت عن مجلس الشُّورى، خلال دورته الرابعة، إنشاء (رابطة للكُتَّاب والأدباء السُّعوديين)، تمثِّل مرجعيَّةً ضروريَّةً في هذا العصر لاحتضان المواهب، ورعاية المبدعين، ونشر نتاجهم، وتنظيم تفاعلهم ومؤتمراتهم مع نظرائهم في العالم. وكنَّا، وما زلنا، نتطلَّع إلى أن يتمَّ إنشاء: (رابطة الكُتَّاب والأدباء السُّعوديِّين) لتحقيق أهدافها المرجوَّة.

2- منذ سنين كنتُ أرى أن (الأندية الأدبيَّة)، بوضعها القائم، قد تخطَّاها الزمن، والمطلوب راهنًا: قيام (مراكز ثقافيَّة شاملة). تستوعب الثقافة والفنون والآداب، وشرائح المجتمع كافَّة. وإلَّا ستبقى الأندية الأدبيَّة- أو الجمعيَّات الأدبيَّة، أو سمِّها ما شئت- في عزلة عن المجتمع والثقافة العامَّة والفنون. كما أنه يلزم لتحقيق أهداف تلك المراكز أن يقوم عليها (متفرِّغون لأعمالها)، وأن تُؤْخَذ، بآليَّة (التنوُّع الطبيعي والبنَّاء)، ومن هذا أن تصبح فيها (المرأة شريكةً كاملة الشراكة)، سواء في إدارتها أو نشاطاتها؛ إذ ما زال يُلحَظ غياب المرأة عن الإدارة العُليا في هذا المجال. فهل ذلك لغيابها الواقعي؟ أم ضعفها العِلمي؟ أم الأدبي؟ أم التأهيلي؟ واضحٌ أنَّ ذلك كلَّه لم يعد يُسوِّغ الإجابة بـ(نعم). 

3- الجوائز الأدبيَّة: لم يعُد لها ذلك الحضور الوطني السالف، وأعني هنا على مستوى جوائز الدولة التقديريَّة. على أنَّ الجوائز نوعان، نوعٌ محكَّم، وآخَر تكريمي، غير محكَّم. وما يستأهل التقدير- سواء من قِبَل الفائز أو الجمهور- هو النوع الأوَّل؛ لأن الفائز بجائزته يكون قد حظي بتقديرٍ عِلميٍّ ومعنويٍّ يفوق قيمة الجائزة الماديَّة.

4- الحركة المسرحيَّة: تراجعت عن طموحاتها في القرن الماضي. تلك الحركة التي كانت تُسهِم فيها الجامعات، ولا سيما (جامعة الملك سعود)، وبعض الأندية الأدبيَّة، مثل نادي الرياض الأدبي، فضلًا عن المعاهد والمدارس. وإذا كان المسرح قد وُصِف قديمًا بأنه أبو الفنون، فإنَّه اليوم أبو الثقافات، وعامل التفاعل الحيوي والمباشر بين الآداب والجماهير.

5- استقطاب الشباب- فضلًا عن الأطفال- إلى الأنشطة الثقافيَّة، ما يزال أقلَّ بكثير من المنشود، إذا قيس إلى استقطاب هاتين الشريحتين في مجالَي الفَنِّ والترفيه. على أنَّ الشاب والطفل لن يتقبَّلا طرحًا نمطيًّا باردًا، ولن يُقبِلا عليه. ليس لأنَّ متطلباتهما مختلفة، ولا لأنَّ المؤسسات الأدبيَّة غير مؤهَّلة، فحسب، ولكن فوق ذلك لأنَّ العصر، ولأنَّ تقنيات التثقيف قد اختلفت جذريًّا. وهذا العامل هو ما يَصرِف معظم الناس، عن الأنشطة الأدبيَّة، بصيغها المنبريَّة التقليديَّة. فكيف بالأطفال والشباب؟!

-2-

لا شك أنَّ مستوى التنوُّع في الأنشطة الثقافيَّة اليوم يبدو أرفع ممَّا كان عليه في الماضي. هذا من حيث الكم، أمَّا من حيث النوع، فالأمر يستدعي الاستقراء العِلمي. غير أنَّ الظاهر في ما تشهده المملكة اليوم من تنوُّع المنابر الثقافيَّة، وتعدُّد المؤسَّسات المعنيَّة بالثقافة، يدلُّ على أنَّ المستوى إجمالًا في تطوُّر.

على أنَّ تعزيز مشاركة الشباب في الفعاليَّات الثقافيَّة يجب أن يبدأ من خلال المدارس والجامعات، في فعاليَّات يكون لها دور التربية الثقافيَّة من جهة، والتحفيز على المشاركة في الفعاليَّات الثقافيَّة العامَّة في المجتمع، من جهة أخرى. فليس دور التعليم بمنحصرٍ في تلقين المعلومات، بل هو إلى ذلك دورٌ تربويٌّ تنويريٌّ، من المفترض فيه أن يعمل على اكتشاف المواهب والقدرات وتنميتهما، فضلًا عن تعزيز المشاركة في الفعاليات الثقافيَّة العامَّة.

‏إنَّ من المهمِّ في هذا المضمار الأخذ بسياسة التوازن بين الأنشطة الأدبيَّة، والفنيَّة، والترفيهيَّة. ذلك أنَّه من الطبيعي أن يكون جمهور الترفيه والفن أوسع من جمهور الأنشطة الأدبيَّة. ومع ذلك فالمؤمَّل أن تُجعَل للأنشطة الأدبيَّة الصدارة في الدعم والاهتمام، ولا سيما أنَّ الأدب وعاء المعرفة والقِيَم، وهو إلى هذا أبو الفنون؛ فالمسرح- على سبيل المثال- هو نصٌّ أدبي، قبل أن يكون أداءً مسرحيًّا، والأغنية هي نصٌّ شِعري، قبل أن تكون أداءً موسيقيًّا. هذا إذا كنَّا ننظر إلى الفَنِّ والترفيه في مستواهما الباني والأرقى، لا في مستوى الاستهلاك والتسلية وتزجية الأوقات.

لهذا أرى ضرورة أن تُرسَم الخطط الاستراتيجيَّة لتعزيز الشراكات بين الأدب والفنون المختلفة؛ فالأدب لا ينفصل عن تلك الفنون بحال من الأحوال. ومن المؤكَّد أنَّ مدَّ الجسور بين الآداب والفنون يعود بالنفع عليهما معًا، ومن ثمَّ يثري المتلقِّي بثمارهما. غير أنَّ تعزيز الشراكات بينهما لا يتأتى بالتنظير، بل بالتخطيط، وإيجاد المؤسَّسات الجامعة التي تقيم هذه العلاقات بين الأدب والفن. ولقد كانت الأندية الأدبيَّة في الماضي تنهض ببعض هذا الدَّور، ولا سيما في مجال المسرح، وأحيانا الفن التشكيلي، وكنتُ أنادي بأن يستمر ذلك على نحوٍ يتواكب وتطوُّر الواقع الثقافي في البلاد. لأنَّه بدا في حصر الأدب في الأندية الأدبيَّة، وإيكال الفنون إلى جمعيَّات الثقافة والفنون، أنَّ الأدب قد عُزل عن الفن، من جهة الأندية الأدبيَّة على الأقل! ولقد طالبتُ، منذ سنين- من خلال مجلس الشورى وعبر الإعلام- إلى الجمع بين الأندية الأدبيَّة وجمعيات الثقافة والفنون في مراكز ثقافيَّة عامَّة، تجمع الآداب والفنون في مؤسَّسات تُعنَى بالآداب والفنون، فتثريهما وتثري ثقافتنا الوطنيَّة.

أُغَــنِّـيْ كُـلَّـما هَـبَّـتْ جَـنَـاحِـي:

جَـنُـوْبًــا أو شَمَالًا تِـلْـكَ رُوْحِـي

*

بِـلَادِيْ حَـيْـثُـما أَلْـقَـيْـتُ رَحْـلِـي

فـثَـمَّـةَ مُلْـتَـقَى الكَـوْنِ الفَـسِـيْحِ

*

بِـلَادِيْ حَـيْـثُـما أَطْـلَـقْـتُ طَرْفِـي

تَـخَطَّـتْـهُ رُؤَى الطِّـرْفِ السَّـبُـوْحِ

*

أُعِـيْـدُ بِـنَــاءَ آفَـاقِــيْ بِـأَمْـسِـي؛

فيَوْمِيْ اجْتَـازَ خَيْلَ غَـدٍ جَـمُـوْحِ!

 ***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

في المثقف اليوم