قضايا
ليلى تبّاني: عزاءات الوهم.. مفارقة اللّعب والسلطة في العالم العربي
لم تعد كرة القدم في عالمنا المعاصر مجرّد لعبة تُمارَس للتسلية أو طقسا رياضيا بريئا يُقاس بعدد الأهداف والانتصارات، بل تحوّلت ـــ خصوصا في المجتمعات العربيةــــ إلى ظاهرة رمزية كثيفة الدلالة، تكشف بوضوح عن بؤس عميق في علاقة الشعوب بأحلامها وبالسلطة وبذاتها وفيما بينها فيما صار الملعب فضاء بديلا عن الساحة السياسية، وصارت المدرجات تعويضا عن المنابر، وغدا الهدف الكروي بديلا مشوّها عن الأهداف التاريخية الكبرى التي عجز الواقع عن تحقيقها.
حين فشلت الشعوب في بلوغ غاياتها الأساسية من حرية، عدالة، كرامة، وعيش الكريم، لم تختفِ غريزة الهدف من الوعي الجمعي، بل هاجرت من المجال السياسي والاجتماعي إلى مجال الفرجة والامتاع البصري الذي يشبه المخدر. فالإنسان لا يستطيع أن يعيش بلا غاية، وإذا أُغلقت أمامه الأبواب الكبرى، تعلّق بأصغر منفذ. هكذا انتقل الحلم من التاريخ إلى المرمى، ومن الفعل إلى التصفيق، ومن التغيير إلى الاحتفال المؤقت. الهدف في كرة القدم واضح، مرئي، سريع التحقّق، لا يحتاج إلى تضحيات ولا يفرض أثمانا باهظة، بعكس الأهداف الواقعية المؤجلة والملتبسة والخطيرة.
في هذا السياق، لم تعد كرة القدم مجرّد لعبة، بل صارت سياسة بلا خطاب، وأيديولوجيا بلا كتب، وهوية بلا تعريفات. إنها سياسة الجسد لا سياسة البرامج، وسياسة الانتماء الغريزي لا المشروع الواعي. اللاعبون هم الأبطال الجدد، لا لأنّهم غيّروا شروط الحياة، بل لأنّهم منحوا الجماهير لحظة انتصار رمزي في زمن الهزيمة الواقعية. فالهدف الكروي لا يحرّر أرضا ولا يرفع ظلما، لكنّه يمنح إحساسا آنيا بالإنجاز، وهذا وحده يكفي في عالم حُرم فيه الإنسان من الشعور بالفاعلية. وليس من قبيل الصدفة أن تُضخّ مليارات خيالية في كرة القدم في زمن تتآكل فيه الطبقات الوسطى، وتنهار فيه أنظمة التعليم، وتتراجع فيه الخدمات الأساسية. هذا السخاء الرياضي لا يعكس حبّا بريئا للّعبة بقدر ما يكشف عن استثمار ذكي في الإلهاء الجماعي. فالفرح المؤقت أقلّ كلفة من العدالة الدائمة، والمهرجان أرخص من الإصلاح، والاحتفال أسهل من المواجهة. حين يشتد الغضب الاجتماعي، تُرفع جرعة الفرجة، وحين يقترب الانفجار، تُفتح الملاعب وتُضخ الأموال وتُصنع الأساطير الرياضية كي يفرغ الغضب ويحوّل الاهتمام.
في هذا الإطار، يتحوّل اللاعب النجم إلى جهاز سياسي متنقّل، وإلى نموذج النجاح الوحيد المتاح في زمن انسداد الأفق، نجاح بلا فكر، بلا موقف، بلا تاريخ، وبثروة فلكية. فتغدو الرسالة الصامتة التي تُبث يوميًا للجماهير واضحة وخطيرة (إن أردت النجاة، لا تناقش، لا تعترض، لا تحلم… العب، فقط إلعب). وهكذا يُعاد توجيه الغضب الشعبي من مساءلة البنى العميقة للظلم إلى صراعات وهمية حول حكم المباراة، أو حظ الفريق، أو خيانة لاعب.
ولعلّ أخطر مفارقة في هذا المشهد كلّه تتجلّى في العلاقة المختلّة مع مفهوم اللّعب ذاته. ففي الوقت الذي تُفتح فيه خزائن الدول والأسواق من أجل لعب الكبار، ويُضخّ المال والرمزية لإسعاد الجماهير أو إسكاتها أو إلهائها، يُحرَم الصغار من اللّعب باسم الجِدّ والحزم والانضباط. فيُقال للأطفال إن اللّعب مضيعة للوقت، وإن المستقبل لا يُبنى إلّا بالصرامة والحفظ والطاعة، فتُختزل المدرسة في الامتحان، والمعرفة في الإجابة النموذجية، ويُجرَّد الطفل من حقّه الطبيعي في اللّعب بوصفه مدخلا أساسيا للفهم والإبداع وتشكّل الوعي لديه.
يا للمفارقة القاسية! يُسمَح للكبار باللّعب لأنهم فشلوا في تحقيق أهدافهم الحقيقية، ويُمنَع الصغار من اللّعب كي لا يفشلوا مستقبلا! وكأنّنا نُعيد إنتاج الفشل نفسه، لكن بأدوات أشد قسوة. لأنّ اللّعب الممنوح للكبار هو لعب مُسيَّس، مضبوط، ومؤطَّر ضمن فرجة استهلاكية لا تهدّد النظام القائم، أما اللّعب الممنوع عن الصغار فهو اللّعب الحرّ، الخلاّق، الذي يعلّم السؤال قبل الجواب، والتجريب قبل الامتثال، والخيال قبل الطاعة. فمن المؤسف أن نمنع اللّعب حيث يجب أن يكون، ونحتفي به حيث يتحول إلى أداة إلهاء. فنقتل اللّعب بوصفه تربية، ونستثمره بوصفه فرجة. هذه ليست مفارقة ساذجة، بل علامة على خلل عميق في تصورنا للإنسان، وللتعليم، وللمستقبل. كرة القدم هنا لا تُدان بوصفها لعبة، بل بوصفها مرآة لبؤس جمعي، تكشف هشاشتنا وحاجتنا إلى المعنى وعجزنا عن تحويل الغضب إلى فعل تاريخي واعٍ.
ومع ذلك، لا تزال المفارقة مفتوحة على احتمال آخر. فالملعب يمكن أن يكون مقبرة للأهداف، لكنه قد يصبح أيضا مختبرا للوعي إذا امتلكنا شجاعة السؤال بدل الاكتفاء بالهتاف. ماذا لو سألنا بعد كل هدف، لماذا نحتاج إلى هذا الفرح؟ ماذا ينقصنا خارجه؟ ولماذا نقبل أن تكون لحظة الانتصار الوحيدة في حياتنا مرتبطة بقدم لاعب لا يعرف أسماءنا؟
إن المشكلة ليست في كرة القدم، ولا في اللّعب في حد ذاته، بل في الطريقة التي جُرِّد فيها اللّعب من بعده الإنساني والتربوي، وحُوِّل إلى أداة سياسية ناعمة ملهية. إذ أنّ أخطر ما يمكن أن يحدث للشعوب ليس القمع المباشر، بل الإلهاء المستمر. فحين يُترك اللّعب حكرا على الكبار في الملاعب، ويُحبَس الصغار في أقفاص الجِدّ القسري، نكون قد حكمنا على الأجيال القادمة بإعادة إنتاج البؤس نفسه. وحدها استعادة اللّعب بوصفه حقا، وفضاء للتفكير، ومدخلا للتفلسف، يمكن أن تفتح أفقا مختلفا، تُستعاد فيه الأهداف خارج المرمى، ويعود الحلم إلى مكانه الطبيعي وهو الحياة نفسها.
***
ليلى تبّاني ــــ الجزائر






