أقلام ثقافية

زينة لعجيمي: كاتبةٌ مع وقفِ التّنفيذ

في هَدأة الصمت وسكون الروح، تشدو حروفي في أعماقي، في لحظات مفعمة بالسكينة والصدق، أعانق أثناءها روحي في لقاء أثيري للارتقاء والمكاشفة بامتياز، أنصت فيه بتمعن لخطاباتها النابضة بالحقائق والتجليات، وحواراتها الفلسفية العميقة، أتأمل همسها الشفيف عن كثب، كطفل بدأ لِتوّه بتعلم الكلام، يقف مشدوها أمام الكلمات وتردداتها الصوتية، لا همّ له سوى التقاطها لترديدها وفهم دلالاتها، لحظات ثمينة يتحين قلمي فرصة الظفر بها في عجالة، مخافة إفلاتها، ليحرز فوزا مظفّرا، كيف لا، ولم يكن يوما قلما اعتياديا، إذ لا يريق حبره ليثقل السطور، بغية افتكاك أوسمة البراعة الأدبية، أو حبًّا بالظهور، بل يفيض إحساسًا وصدقًا، لينثر نبضًا من حكمة ونور.

قلمٌ يكتب ليضيء لا ليستجدي الأضواء، قلم لا ينطفىء نوره البتّة، مهما اختلج نبضه، وارتجف حبره .

الكتابة بالنسبة لي تخرج عن إطارها المألوف، لذا فلأعترف لم يتوقف قلمي يوما عن النبض مُذ صرتُ كاتبة! بل وقبل ذلك بأمد طويل جدا، لم أكن أدرك حينها أني أحوز مَلَكة الكتابة بالفطرة، فدونما وعي مني، كنت أنتهج نهج أديبة مفكرة منذ صغري، فلم تكن تمر علي الأحداث ولا الأشخاص مرور الكرام، لطالما امتلكت نظرة ثاقبة، عقلا تحليليا وحدسًا رهيبًا، نادرًا جدّا ما يخطىء في الحكم على حقيقة ودواخل الآخرين وتقدير مآلات الأمور، وسط كل تلك الأحداث، كانت تنتابتي رغبة جامحة للتعبير عنها بطريقة ما، حتى ولو كانت لا تعنيني بالمرة، لكن بعد أن صرت كاتبة، ولحسن الحظ، غالبا ما كنت أكبت جماحها، لأسباب عدة تختلف باختلاف حيثيات المواقف، لأشعر بوخز الضمير بعدها، كوني أعتبر الكتابة في تلك المواطن واجبا أخلاقيا يتحتم على قلمي، وليس مجرد رد فعل عاطفي عارض وعابر، أو لفتة أدبية، ولمسة فنية جمالية محضة، غير ملزمة حيال تلك الأمور.

من الطرائف، أحيانا أجدُني أقول لنفسي: ماذا لو ظللتِ ممسكة بقلمك ودفترك طوال الوقت، مؤكد ستعيدين صياغة كل ما يحدث أمامك وحولك في حلة أدبية بليغة.

 يا للهول! ...

ربما كنتِ أبدعت بتأليف عشرات القصص بل روايات، وصغتِ العديد من الحكم والعبر في قالب أدبي ساحر ومبتكر، أو ربما دثرته بثوب من الكوميديا الساخرة، فلطالما امتلكتِ روح دعابة عالية، إذ تبرعين بثوانٍ معدودة في رسم ابتسامة عريضة على وجه شخص حزين، فتجعلينه يضحك وهو يمسح دموعه، ناسيا ربما لبرهة سبب مأساته وبكائه، فأنت تربكين المشاعر وتتحكمين بتوجيه دفتها بطريقة مذهلة، بالإضافة لحسك الفكاهي المميز، الذي يمكنك من تحويل أسوإ المواقف إلى طرفة، أو مهزلة كوميدية مثيرة للضحك والتهكم.

أعتقد أن هذه الملَكات أدوات قَيّمة وإضافية، تضفي على قلمي نكهة مميزة، إن استغلها بحرفية مستقبلا .

 الكتابة بالنسبة لي تجربة وجدانية ماتعة، وسلسة للغاية، يراقص فيها قلمي حروفي بانسيابية وخفة لا متناهية، ومتعة لدي يتوقف أثناءها الزمن، أنفصل فيها عن الواقع بحواسي، لألج عالما هادئا يتناغم فيه فكري مع إحساسي، لحظات سكينة يسترخي فيها عقلي وتتهادى عندها أنفاسي، فألقاني قد أطلقت العنان لقلمي دونما تصنّع أو تكلّف.

لقد أدركت بحكم تجربتي الفتيّة والمتواضعة في عالم الكتابة، أن حروفي لا ترى النور إلا في لحظات انعتاقي من الطقوس الاعتيادية للكاتب النمطي، لحظات أنزوي فيها مع روحي، أحاور صمتي، تارة سائلتُهُ أنا فيجيب، وأخرى يسألني هو، فأمتنع حينًا وأحيانًا أجيب، ومابين إجابة وسؤال نتبادل أنا وصمتي الأدوار، فيكتمل المقال.

مراحل الكتابة بالنسبة لي لا تبدأ بالتقام القلم، بل تنتهي هنالك، كخطوة أخيرة لاكتمالها، تبتدىء الكتابة عندي بالنهايات لا من البدايات! تماما كبعض قصائدي التي استهللت نظمها بآخر بيت فيها، كثيرا ما أجدُني أتطلع للإحاطة بالنهايات، لا أدرك سر ذلك، ولا أعلم أَفضولٌ ذاك أم هي رؤيتي الاستباقية للأمور، غالبا ما يحدث أن أبدأ قراءة كتاب بخاتمته، وأطالع جريدة بدءًا بآخر صفحة، كل ذلك ربما لكوني شخصية تهوى الوضوح، تنفر من التعقيد والإبهام، تمقت المنطقة الرمادية، ولا تستلطف بتاتًا الأشياء الباهتة والمنقوصة، لذا درجتُ في غالب الأمور على التركيز والبحث عن الكلّيات أوّلا، ثم التعمق في الجزئيات والاسترسال في التفاصيل، لعل مَردَّ ذلك يعود لشخصيتي الحدسية، المنتمية لنمط ذوي الأهداعف والرؤى وأصحاب النظرة الشمولية.

لقد بدأت فعليًّا أعي هويتي الأدبية ككاتبة، والتي بدأت تظهر ملامحها جليّة لي منذ قُرابة عام،

 فاكتشفت أن أجمل وأقوى ما كتبت وسأكتب، يكون حصرًا حينما أعتزل الكتابة!

 لا أشعر حقا أني كاتبة، إلا لدى هجري لدفتري وإعلان القطيعة مع قلمي، فنبضي وليد صمتي، ونتاج خلواتي الفكرية والتأملية، هنالك فقط يستمد النور ليسطع مجددا.

أنا كاتبة...

 تكتب فقط حينما تتوقف عن الكتابة!

***

زينة لعجيمي / الجزائر

 

في المثقف اليوم