أقلام ثقافية
عبد السلام فاروق: ذكريات في يوم اللغة العربية
رحلة مع الضاد بين طه حسين وأبي الفرج
ثمانية عشر ديسمبر... يوم يعانق فيه الوجدان اللغة، وتحتفي الذاكرة بأعذب الكلمات. يوم يذكرنا أننا نعيش في حضن لغة لا تشيخ، تتنفس بألف عام وآلاف. هنا، حيث تختلط حروف المعاجم بأنفاس الحياة، وتصبح الكلمة صورة لا تنسى، وأثرا لا يمحى.
تلك حكايتي مع اللغة... بدأت مع صبي أعمى القلب لكنه أبصر بعين اللغة ما لم يبصره البصراء. طه حسين... الفتى الفقير الذي حول الظلام إلى نور، والعتمة إلى بصيرة. تعلقت به منذ الصغر، حتى أنني ارتديت نظارات سوداء تقليدا له، وتمنيت لو أكون كفيفا لأجد من تقرأ لي كما قرأت سوزان له. جنون صبا كان، لكنه جنون عاقل في محراب الأدب.
اقتنيت كل كتبه، وتتبعت خطاه في قراءاته. كان دليلي إلى التراث وإلى الفكر الغربي معا. في "حديث الأربعاء" كان يمضي بي ساعة مع الحطيئة، وأخرى مع لبيد، وثالثة في صحبة كعب بن زهير. كان يأخذ بيدي إلى قيس بن الملوح، ويدخلني عالم عمر بن أبي ربيعة، ويجلسني في حضرة أبي نواس. وفي "قادة الفكر"، وقفت وجها لوجه مع سقراط وأفلاطون وأرسطو. وفي "ألوان"، تعرفت على فولتير وكافكا وسارتر.
لكن وصيته في "تجديد ذكرى أبي العلاء" هي التي رسمت لي خارطة الطريق: "ليس عليه أن يتقن علوم اللغة وآدابها فحسب، بل لا بد له أن يلم إلماما بعلوم الفلسفة والدين، ولا بد من أن يدرس التاريخ وتقويم البلدان درسا مفصلا، ولا بد له من أن يدرس علم النفس للأفراد والجماعات".
وهنا تكمن المفارقة العبقرية في رؤية طه حسين للغة: فهو الثاوي في أحضان التراث، المتيم بكتب القدماء، والمغرم بلغة الضاد، كان في الوقت نفسه داعية لتطوير اللغة وتجديد دمائها. كان يرى أن اللغة العربية "ليست أداة للتعامل والتعاون الاجتماعيين فحسب، وإنما هي أداة للتفكير والحس والشعور". لذلك لم يتردد، وهو عميد الأدب العربي، أن يقول كلمته الشهيرة في مجمع اللغة العربية عندما اعترض عباس حسن صاحب "النحو الوافي" على استخدام مصطلح "الانكماش" الاقتصادي بحجة أن المعاجم تقول "كمش الحصان أي أسرع في سيره". نظر طه حسين إليه وقال بلهجته المعهودة: "جبتها منين دي يا عباس؟" ثم لما تأكد أن الاقتصاديين استقروا على هذا الاستخدام، قال كلمته التي لا تنسى: "طز يا عباس!"
هكذا كان طه حسين... يعرف أن اللغة كائن حي، ينمو ويتطور، ولا يمكن حبسه في قمقم القواميس وحدها. كانت رؤيته متوازنة بين التمسك بالأصالة والانفتاح على التحديث، بين احترام التراث وضرورة مواكبة العصر.
ومن طه حسين إلى أبي الفرج الأصفهاني... رحلة أخرى في أعماق اللغة. ذلك الرجل الذي قضى خمسين عاما في تأليف "كتاب الأغاني"، يسافر ويستمع ويسجل، حتى تجاوزت أجزاؤه الخمسة والعشرين مجلدا. كان يستصحب في أسفاره عشرة جمال من الكتب، ولما حصل على "الأغاني" لم يكن بعد ذلك يستصحب غيره لاستغنائه به عن سواه.
سألت العلامة الراحل عبد المحسن طه بدر يوما: هل قرأت كتاب الأغاني كاملا؟ فابتسم وهو يروي لي حكايته مع الكتاب، والمقالات التي كتبها تحت عنوان "فضيحة تحقيق الأغاني". ثم قدم لي نصيحة ثمينة: "احرص على أن تكتشف الكتب بنفسك". فكانت تلك بداية رحلتي مع "الأغاني"... كتاب يختزل الحضارة العربية شعرا وأدبا وأنسا وتاريخا وحكايات. كتاب فريد من نوعه في آداب العالم، يقدم الشعراء والمغنين والمغنيات وأصحاب الأوزان الموسيقية، رابطا بين هذه الفئات الثلاث بحيث يبدو الشعر والموسيقى والغناء كما كان يجدر بهم أن يكونوا منذ البداية: فنونا ثلاثة في بوتقة واحدة.
وأتساءل اليوم، في عصر منصات التواصل الاجتماعي وكثرة المشاغل: ماذا لو عاش أبو الفرج الأصفهاني في زمننا هذا؟ هل كان سيتمكن من كتابة موسوعته في خمسين عاما؟ ومن أين له أن يجد هذه الكتيبة من الشعراء والمغنين والفرسان والصعاليك والأمراء؟ وهل سيبقى لقارئ اليوم صبر على مثل هذا العمل الضخم؟
لكن اللغة العربية تعلمنا أن الجودة لا تموت، وأن العمق لا يزول. صحيح أن الأيام لم تعد أيام اعتكاف لخمسين عاما على ضفة دجلة، يسطر فيها الصفحات دون كلل أو ملل، لكن الروح تبقى، والهمة تبقى، والحرف يبقى.
اللغة العربية... تلك التي وصفها طه حسين بأنها "ضرورة من ضرورات حياتنا الفردية والاجتماعية، ووسيلة أساسية إلى منافعنا مهما تختلف قربا وبعدا ويسرا وعسرا، وسهولة وتعقيدا". إنها ليست مجرد أداة اتصال، بل هي هوية وذاكرة وحضارة. إنها القادرة على احتواء المصطلح الاقتصادي الحديث كما احتوت شعر امرئ القيس، وقادرة على استيعاب الفلسفة الغربية كما استوعبت فلسفة المعري.
في يوم اللغة العربية، نذكر أن لغتنا ليست قديمة متحفيه، ولا هي طارئة مستهجنة. إنها جسر متين بين الأصالة والمعاصرة، بين التراث والحداثة. هي التي قال عنها طه حسين إننا "لا نفكر في الهواء ولا نستطيع أن نعرض الأشياء على أنفسنا إلا مصورة في هذه الألفاظ التي نقدرها، ونديرها في رؤوسنا ونظهر منها للناس ما نريد، ونحتفظ منها لأنفسنا بما نريد".
هكذا تبقى اللغة... حية في معاجمها، نابضة في شوارعها، متطورة في مختبراتها، أصيلة في تراثها. تبقى كما أرادها طه حسين: أداة للتفكير والحس والشعور، وكما صاغها أبو الفرج: سفرا للحضارة شعرا وأدبا وأنسا وتاريخا.
فلتظل لغتنا الضاد - كما عرفناها من طه حسين وأبي الفرج - لغة حياة لا موت، ولغة انفتاح لا انغلاق، ولغة جمال لا يعرف الشحب ولا الذبول.
***
عبد السلام فاروق






