قضايا

غالب المسعودي: الأفقُ السائبْ

العدم السريالي (2)

لِقَدْ كَانَ ٱلْعَدَمُ دَائِمًا مُجَرَّدَ فِكْرَةٍ مُهَذَّبَةٍ؛ ظِلًّا وُجُودِيًّا يُمْكِنُ أَنْ يَتَرَاجَعَ أَمَامَ شُجَاعَةِ ٱلْعَقْلِ. ٱعْتَبَرُوهُ فَجْوَةً، نُقْصًا، أَوْ رُبَّمَا مُجَرَّدَ سَوْءِ فَهْمٍ لِلتَّصْمِيمِ ٱلْكَوْنِيِّ.

لكن العدم السريالي هو أكثر وحشية: إنه إفراط. إنه الحضور المكتظ والزائد للأشياء. والتاريخ ليس سوى سلسلة من الكوابيس المنظمة، التي يخترعها قوم لا يملكون شجاعة النوم الأبدي.

الكلمات أغلال: الكلمات نفسها هي آخر وهم. بمجرد أن تُسمّي العدم، تكون قد خنته.

. لذا، المناجاة صوت وهي أعلى أشكال الخيانة للوجود

نحن مدينون للجمال باحتقاره للحياة.

إنه الفخ السريالي الذي يجعلنا نتحمل بضعة أيام إضافية قبل أن نستسلم للرمل. نحن لسنا أخطاء في التصميم، بل نحن مبالغة فيه.

الكون أضجره صمته، فابتكرنا نحن – الضوضاء اللانهائية، والعبث الصارخ.

الخلاص الوحيد الممكن هو الإحساس المُرهف بالعدم، أن تصل إلى نقطة لا تعود فيها ترغب بشيء، ولا ترفض شيئاً.

لا مبالاة تامة، ببرودة الماس

اليأس هو فضيلتنا الوحيدة. من يخدعه الأمل، هو مجرد متسكع وجودي لم ينضج بعد في مأساة حقيقية.

النَّوْمُ لَيْسَ هَرَبًا، بَلْ هُوَ ٱحْتِجَاجٌ قَصِيرٌ لِلْجُثَّةِ ٱلْمُسْتَقْبَلِيَّةِ. ٱلْحَيَاةُ هِيَ فَقَطْ ذَٰلِكَ ٱلْفَاصِلُ ٱلزَّمَنِيُّ ٱلْبَغِيضُ بَيْنَ غَفْوَتَيْنِ. أَنْ تَحْمِلَ أَمَلًا فِي جَيْبِكَ، هَٰذَا هُوَ ٱلدَّلِيلُ عَلَىٰ خَلَلِكَ ٱلْعَقْلِيِّ، عَلَىٰ عَجْزِكَ عَنْ مُوَاجَهَةِ ٱلْبَدَاهَةِ.

لا شيء يستحق أن يُبنى أو يُهدم

العدم السريالي هو أن ترى الماضي يتعفن أمام عينيك، بينما المستقبل هو مجرد نُسخة مُسبقة لذات العفن. لذلك، فلتكن عودتنا إلى اللا شكل فورية، وبدون أي بهرجة تُفسد عظمة الزوال.

مرثية المُنتَظِرِين:

الموت فَرَاغ إجرائيّ

الوقت ليس خطاً، بل دائرة مملة من الـ سَيَحدُث

في الوادي، لا شيء ينتظرنا سوى غبار الجملة التالية،

التوقّع هو آخر الأوهام.

إننا نعيش في حالة انتظار مُعلَّب، ننتظر أن تأتي النهاية أو يأتي المعنى أو يأتي أي شيء يعطّل هذا التكرار المميت.

لكن العدم السريالي يضحك

ما تنتظره قد حدث بالفعل

وخزٌ في حائط الانتظار

الانتظار هو الطريقة المهذبة التي يتخذها الانتحار الفلسفي.

أن تستسلم للزمن هو أن تخون اللحظة الوحيدة التي امتلكتها، لحظة اللا جدوى.

الخلاص يبدو وكأنه دائماً خلف الباب التالي.

لكن خلف الباب التالي هناك باب آخر، الحقيقة هي...! لم يكن هنالك باب أصلاً.

الإيمان هو أن تجد حماقة جميلة بما يكفي لتمضية أيامك.

فلسفة الجمال هو أن تبحث عن كل الحماقات البشعة.

. العدم السريالي هو ألا تجد حماقة على الإطلاق

أعظم ما يتقنه القطيع هو صناعة اليقين.

. يصنعون الأمان من حطام الأجوبة

. اليقين هو سجن لا جدران له

البطل ليس من يقاتل، بل من يُدرك سخافة قتاله ثم يستمر فيه؛ احتجاجاً على نفسه.

السكينة لم تأتِ من الإجابة

. بل من إدراك أن السؤال نفسه كان نكتة سخيفة

المتعة الوحيدة الصادقة هي اكتشاف مدى بشاعة الحياة

. والابتسامة المترددة التي تلي ذلك

الوحش الذي ابتلع الغريب لم يكن وحشاً، بل صوت الهدوء في أعماقنا الذي يطالبنا بالكف عن المحاولة.

نحن نؤمن بالغد، لأن الأمس خذلنا بحياديته.

هندسة الكسل الكونية:

الفراغ ليس فراغاً، بل هو جهدٌ عظيمٌ مُبذُول في اللا شيء.

الكسل ليس عيباً شخصياً، بل هو قانون كوني.

. لقد أُتعب الوجود ذاته من كثرة ما خلق

كل الحركة التي نراها حولنا هي في الحقيقة أخاديد عميقة تُحفر في الطين لتهدئة شعور الافراط بالوجود.

لقد انتصر العدم بأكثر الطرق تواضعاً

..! بالضجر

لَمْ يَحْتَجْ إِلَى حَرْبٍ كَوْنِيَّةٍ، بَلْ زَرَعَ فِي أَعْمَاقِنَا بَذْرَةَ ٱلتَّكْرَارِ ٱلْمَمِلِّ حَتَّى صِرْنَا نَرَى فِي كُلِّ إِنْجَازٍ عِبْئًا، وَفِي كُلِّ هَدَفٍ خِيَانَةً لِلرَّاحَةِ ٱلنِّهَائِيَّةِ، ٱلْكِتَابَةُ هِيَ طَرِيقَةٌ لِلِاعْتِرَافِ بِأَنَّ لَا أَحَدَ يَسْمَعُ، لَكِنْ مَعَ إِصْرَارٍ غَرِيبٍ عَلَى إِزْعَاجِ ٱلصَّمْتِ.

الشغف هو عرقٌ على جبين الميّت. لا يوجد شغف حقيقي سوى شغف التلاشي.

أن تفكّر يعني أن تمنح المأساة شكلاً هندسياً دقيقاً، ثم تكتشف أنك كنت ترسم حبة رمل.

الذاكرة هي مادة البناء الوحيدة المتبقية

. لكننا نبني بها بيوتاً لا تستوعب سوى أشباح خيباتنا

العدم السريالي هو أن تمد يدك لتلتقط شيئاً، فتجد أن يدك نفسها بدأت بالذوبان.

لم يكن الغريب جباناً حين توقف أمام البرج، بل كان مُتعباً بما فيه الكفاية ليدرك أن البرج هو نفسه النسخة الزجاجية من الوادي.

الخيانة العظمى ليست أن تقتل أحداً، بل أن تسمح لنفسك أن تُقتل بـالإحساس المزيف.

البقعة السوداء:

البِقْعَةُ ٱلسَّوْدَاءُ عَلَى ٱلْأَرْضِ تَبْتَسِمُ لِأَنَّهَا ٱلْمَكَانُ ٱلْوَحِيدُ ٱلَّذِي رَفَضَ ٱدِّعَاءَ ٱلضَّوْءِ بِأَنَّهُ ٱلْأَبَدِيُّ، بَيْنَمَا كَانَتِ ٱلظِّلَالُ تَزْحَفُ مِنْ وَرَاءِ ٱلسِّتَارِ، تُغَنِّي تَرْنِيمَةَ ٱلْمَوْتِ لِلْمَرَايَا ٱلْعُمْيَاءِ. ٱلزَّمَنُ ثَقْبٌ فِي جِدَارِ ٱلْعَقْلِ، يَسِيلُ مِنْهُ عَسَلُ ٱلْغِيَابِ عَلَى مَذْبَحِ ٱلْأَرْقَامِ ٱلْمُقَدَّسَةِ، وَٱلْأَصْوَاتُ ٱلصَّدِئَةُ تَسْتَجْدِي هَمْسَ ٱلْفَرَاغِ. لَا أَحَدَ يُصَدِّقُ ٱلْوَرْدَةَ ٱلزَّرْقَاءَ ٱلَّتِي تَنْمُو فِي حَنْجَرَةِ طَائِرٍ مَيِّتٍ، سِوَى ٱلصَّدَى ٱلَّذِي يُكَرِّرُ فِي مُتَاهَةِ ٱلدَّمِ. ٱلْخَيْطُ ٱلَّذِي يَرْبِطُنَا بِٱلْأَمْسِ، هُوَ قَيْءُ إِلَهٍ قَدِيمٍ، تَجَمَّدَ عَلَى شَكْلِ نَجْمَةٍ.ٱلْبِقْعَةُ ٱلسَّوْدَاءُ عَلَى ٱلْأَرْضِ تَبْتَسِمُ لِأَنَّهَا ٱلْمَكَانُ ٱلْوَحِيدُ ٱلَّذِي رَفَضَ ٱدِّعَاءَاتِنَا هِيَ ٱلْكَفَنُ ٱلْأَبَدِيُّ ٱلَّذِي لَا يَكُفُّ عَنْ إِزْعَاجِ ٱلْوُجُودِ، ٱلْحُرِّيَّةُ لَيْسَتْ ٱخْتِيَارًا، عِندَما أَدْرَكْنَا ٱلْعِبْءَ، سَمَحْنَا لِأَعْنَاقِنَا أَنْ تُعَلَّقَ بِخَيْطٍ مِنَ ٱلْكَسَلِ ٱلْمُقَدَّسِ، لِنَبْتَهِجْ إِذَنْ، لِأَنَّنَا نَعْرِفُ أَنَّنَا لَسْنَا مُهِمِّينَ بِمَا يَكْفِي...! لِتَكُونَ هَذِهِ هِيَ ٱلْقَشَّةُ ٱلْأَخِيرَةُ ٱلَّتِي تُغْرِقُنَا.!

***

غالب المسعودي

في المثقف اليوم