قضايا

ابتهال عبد الوهاب: الأماكن ذاكره الروح.. حين تسكننا الاماكن اكثر مما نسكنها

غنى محمد عبده الأماكن كلها مشتاقه لك.. فهل فعلا الأماكن تشتاق لنا كما نشتاق لها؟؟

الأماكن ليست حجارة صامتة ولا جدران عابرة، إنما هي أرواح مستترة تنتظر من يوقظها بالذاكرة.

نحن حين نقول: "اشتقنا إلى مكان ما" فإننا في الحقيقة لا نشتاق إلى الجغرافيا بقدر ما نشتاق إلى أنفسنا القديمة التي تركناها هناك، إلى ملامح كنا نظنها اندثرت فإذا بها محفوظة بين عتبة ونافذة وشجرة ظلت صامدة رغم الغياب

الأماكن ليست مجرد مساحات تحدها الجدران أو الطرقات أو الأشجار، بل هي كائنات حية في وعي الإنسان، تمتلك روحا لا تدرك بالحواس بل تشعر بالقلب. حين نذكرها فإننا لا نذكرها كأشياء خامدة، وإنما نستدعي عبرها جزءا من ذواتنا، من طفولتنا> الأماكن تشبه المرايا الخفية كلما عدنا إليها أعادت إلينا وجوها كادت تمحى، وأحاديث كادت تذوب وابتسامات غافلتنا وغابت. إن لها ذاكرة لا نراها، لكنها تقيم في جدرانها، في رائحة غبارها، في ملمس خشب عتيق أو حجر بردته السنين. نحن نقيم فيها حتى ونحن بعيدون، وهي تقيم فينا حتى ونحن نقسم أننا نسينا.

قد نتصور أننا من نترك بصمتنا على الأماكن، لكن الحقيقة أنها هي من تترك بصمتها فينا. فهي تعلمنا كيف نختبر معنى الغياب وكيف نذوق طعم الفقد. كل زاوية هي درس في الذاكرة، وكل شارع هو شاهد على قصة ما، وكل مقعد قديم يخفي تنهيدة أو دمعة أو لحظة انتشاء.

فحين نعود إلى مقعد قديم أو شارع عرف خطواتنا، ينهض من الصمت كل ما مر بنا: دمعة سقطت يوما على حجر بارد، ابتسامة ولدت تحت ظل شجرة، أو كلمة بقي صداها عالقا بين جدارين. ولعل الإنسان لا يشتاق في الحقيقة إلى المكان ذاته، بل إلى ذاته القديمة التي تركها هناك، إلى تلك النسخة البريئة أو العاشقة أو الكسيرة من نفسه.

ولأننا كائنات عاطفية أكثر من كوننا عقلانية، فإننا نغدو أسرى الأماكن التي عبرناها. نعيش في وهم الذكريات التي صنعتها أرواحنا هناك، نضخمها حتى تغدو أكبر من اللحظة نفسها، فنغدو في قبضة الحنين، عاجزين عن الانفلات. الأماكن بهذا المعنى ليست خارجنا، بل هي نحن وقد تحولنا إلى أثر منقوش على حجارتها.

الأماكن تربي فينا أوهاما وحنينا يتجاوزان حدود الواقع، فنخلق حولها صورا مضخمة من الذكريات، حتى نصبح أسرى ما تخيلناه أكثر من أسرى ما عشناه بالفعل> لكن هذا التعلق ليس بلا ثمن. فالفقد يضاعف وجع الإنسان حين ينتزع من مكان أحبه أو ينفى عنه. فالأماكن تحمل في أعماقها طاقة تشبه المرض حين نفارقها> لذلك، لا عجب أن نمرض حين نفارقها، ولا عجب أن نبكي حين نراها من جديد، لأننا نلتقي في تلك اللحظة بأنفسنا المفقودة. الأمكنة تحفظنا كما نحفظها، وربما تشتاق إلينا بالقدر الذي نشتاق إليها، لأن ما يملؤها بالحياة ليس طينها ولا جدرانها، بل نحن، بضعفنا وعواطفنا وخيباتنا، التي تركناها هناك شاهدة علينا إلى الأبد

إننا لا نحيا في الأماكن فحسب، بل هي أيضا تحيا فينا. نحن نتبادل معها الأثر. نترك فيها صدى خطانا وتنهداتنا، فتترك فينا ذكرى لا تموت. ولعل سر عذوبة الاماكن وقسوتها في الوقت نفسه، هو أنها تحفظنا أكثر مما نحفظها، تذكرنا بمن كنا، وتعيد إلينا ما فقدناه من ذواتنا. لذلك، يظل الإنسان كلما نظر إلى مكان قديم يشعر بأنه لم يغادره قط، بل ما يزال يقيم هناك، مختبئا في حجر أو نافذة أو ظل،،، ينتظر أن يلتقي بنفسه من جديد>

بعض الأماكن تحتوينا، تزيل عن قلوبنا القلق وتمنحنا السكينة.. بعض الأماكن أكثر إنسانية من البشر. تمنحنا دفئا لا تفسير له، تزيل عن القلب وحشة الأيام، وتسكب فينا سلاما عميقا يشبه الاعتراف. هي ليست جدرانا ولا نوافذ، بل صدور خلقت لتحتوي تعبنا، وتقول لنا بصمتها: ما زلت أعرفك… وما زلت أحفظ أثر خطواتك.

الأماكن في جمالها وقسوتها هي أكثر ما يشبه الإنسان: تبكي، وتنتظر، وتشيخ، وتشفى، وتبقى رغم كل ما يتغير. ولعل سر الحنين كله يكمن في تلك القدرة العجيبة لها على حفظنا أكثر مما نحفظها، وعلى رؤيتنا بوضوح أكثر مما نرى أنفسنا

الاماكن، ليست مجرد مشاهد. انها اوطان صغيرة نكبر فيها، ونغادرها، لكنها لا تغادرنا. تبقى معلقة في داخلنا، تفتح ابوابها كلما اغمضنا اعيننا، وتذكرنا بمن كنا، وبمن خفنا ان نصبح، وبمن نحاول ان نعود اليه.

اننا لا نسكن الاماكن وحدنا. الاماكن ايضا تسكننا. وحين نشتاق اليها، فإنما نشتاق الى انفسنا التي ما زالت تنتظر هناك، جالسة في ظل شجرة، او واقفة عند باب، او تمشي على رصيف كان يشبه حياة كاملة لم نعد نعيشها

في نهاية الامر ندرك حقيقة لا يمكن الهرب منها: نحن لسنا ابناء الزمن وحده، بل ابناء الاماكن التي عبرناها. كل مكان مررنا به ترك فينا خيطا خفيا يشدنا اليه مهما ابتعدنا. ولعل اعمق ما نكتشفه ان الاماكن لا تظل كما هي، بل تظل كما تركنا نحن ارواحنا فيها. وما الحنين الا عودة متأخرة نحو ذات حاولت ان تنسانا فاخذها المكان في حضنه وحفظها. لذلك كلما عدنا الى مكان احببناه، ندرك اننا لم نفقده قط، بل فقدنا انفسنا التي كانت تسكنه. والعودة اليه ليست عودة الى حجر او طريق، بل عودة الى نسخة منا تمنحنا القوة لنكمل الطريق من جديد.

فنحن لا نغادر المكان حقا… بل نترك في دهاليزه نسخة منا، تظل جالسة هناك، صامتة، تنتظر لحظة واحدة: أن نعود لنلتقي بأنفسنا من جديد.

وكما قال ادونيس: المكان الذي اغادره يسكنني اكثر، وربما لهذا لم نغادر اماكننا يوما مهما ابتعدت المدن وامتدت المسافات...

***

ابتهال عبد الوهاب

 

في المثقف اليوم