قضايا

مصطفى غلمان: في أنسنة التقنية واستعادة الوعي

حين نتأمل الذكاء الاصطناعي، لا نرى فقط تقدّمًا تقنيًّا مذهلًا، بل نواجه أنفسنا في أكثر صورها تعقيدًا: الإنسان وقد صار مرآةً تصنع مرايا.

لقد أراد الإنسان أن يخلق عقلًا شبيهًا بعقله، فإذا به يوقظ السؤال القديم الذي أرّق أفلاطون وأرسطو وابن سينا: ما الذي يجعلنا نفكر؟ أهو الدماغ بما هو عضو مادّي؟ أم الوعي بما هو أثر في الروح؟

إن كل محاولة لفهم الذكاء الاصطناعي ليست سوى تجسيد جديد لدهشة الفلسفة. تلك التي تضعنا أمام حدود المعرفة.

لقد ظنّ الإنسان أنه سيصنع آلة تفكر، لكنه لم ينتبه إلى أنه في اللحظة ذاتها يصنع مرآة وجودية تعكس هشاشته وخوفه من أن يُستبدل، فكما قال هيدغر: "جوهر التقنية ليس تقنيًا". إنها ليست أدوات نستخدمها فحسب، بل طرائق تفكير تعيد تشكيل علاقتنا بالعالم.

وإذا كان العلم قد حرّر الإنسان من كثير من الأوهام، فإن الذكاء الاصطناعي يعيده إلى أقدم أوهامه، الرغبة في الخلق. إننا نعيد تمثيل لحظة التكوين نفسها، ولكن هذه المرة لا بوصفنا مخلوقين، بل بوصفنا صُنّاعًا. وهنا يتجدد السؤال الميتافيزيقي: هل يحقّ لنا أن نصنع "وعياً آخر"؟، أم أن الوعي يظل سرًّا لا يُعاد إنتاجه إلا بوصفه أثرًا في النفس، لا كودًا في الخوارزمية؟.

إن التفكير في الذكاء الاصطناعي ليس شأناً علميًا فقط، بل هو تحدٍّ فلسفي ومعرفي. فالآلة قادرة على التعلّم، لكنها لا تعرف لماذا تتعلّم. وهي تمتلك منطقًا حسابيًا، لكنها تفتقد الوعي بالمعنى، ذلك الوعي الذي يجعل الإنسان يسأل لا فقط "كيف؟" بل "لأي غاية؟"، وهنا تتجلّى المفارق، إذ كلما ازداد الذكاء الاصطناعي إتقانًا، ازددنا نحن حيرة أمام ماهية الإنسان. هل نُعرّف أنفسنا بالعقل أم بالروح؟ بالقدرة على التفكير أم بالقدرة على التأمل؟.

لقد كتب ميرلوبونتي أن "الوعي ليس مرآة تعكس العالم، بل هو حضورٌ في العالم". أما الوعي الاصطناعي فليس له عالم، بل بيئة، ليس له تجربة وجودية، بل وظيفة. إنه يحاكي الوعي دون أن يعيش العالم، بينما الإنسان يعيش العالم ليكتشف ذاته. ولعل هذا ما يجعل "المعنى" مستعصياً على البرمجة. فالمعنى ليس نتيجة منطقية بل تجربة روحية، تتكوّن من الذاكرة والحنين والرمز، ومن قلق الإنسان أمام موته وخلوده في الوقت ذاته.

إن الآلة لا تموت، ولذلك لا تحيا بالمعنى الإنساني للحياة. فليس المقصود من نقد الذكاء الاصطناعي هو رفضه، بل تحريره من مركزية الأداة، وإعادته إلى أفق الوجود الإنساني. إنه ليس خطرًا في ذاته، بل خطر حين يغدو نموذجًا للفكر.

وحين يصبح الإنسان نفسه "ذكاءً اصطناعيًا" في سلوكه، حسابيًا في قراراته، آليًا في انفعالاته. يذكّرنا الجابري بأن "العقل لا يكون عقلًا إلا متى كان نقديًا"، بينما يحذّرنا بودريار من أن “الواقع سيذوب في محاكاته". هنا يكمن التحدي، كيف نعيش داخل الثورة التقنية دون أن نفقد حرارة المعنى؟. وكيف نُعيد إلى الوعي قدرته على التساؤل، لا الاكتفاء بالتنفيذ؟

ربما يكمن الحلّ فيما يسميه ابن عربي "الخيال الخلّاق"، ذلك البعد الوسيط بين الحسّ والعقل، بين العالم المرئي والعالم الغيبي. الذكاء الاصطناعي سيظل أداة إن لم نتعلّم كيف نحوله إلى رافعة للوعي الإنساني، لا بديلاً عنه.

علينا أن نجعل من التقنية أفقًا للإنسانية لا نهاية لها. فالرهان اليوم ليس على التفوق العلمي، بل على القدرة على أنسنة المعرفة، وجعلها امتدادًا للروح، لا سجنًا لها. وما لم نعد اكتشاف المعنى في داخلنا، فإن كل ذكاء خارجي سيظل ناقصًا، لأنّ الإنسان وحده هو القادر على أن يسأل عمّا لا جواب له، وهو ما يجعل منه، في النهاية، الكائن الوحيد القادر على أن يتجاوز نفسه.

ربما يكون الذكاء الاصطناعي فرصة لا لإعادة اختراع الإنسان، بل لاكتشاف مدى إنسانيته. فحين نتساءل عن حدود الآلة، فإننا في الحقيقة نتساءل عن حدود وعينا. وعندما نحلم بخلق "عقلٍ آخر"، فإننا نحاول أن نرى في هذا الآخر صورتنا الممكنة، صورة الإنسان وهو يسير بين المادة والروح، بين المعقول والغيب، بين العلم والإيمان. ذلك هو أفقنا المفتوح: أن نواصل التساؤل، لأن السؤال نفسه هو آخر ما تبقّى من الإنسان في عصر ما بعد الإنسان.

***

د. مصطفى غَلمَان

في المثقف اليوم