قضايا

عبد الهادي عبد المطلب: في زمن التّفاهة.. الرهان على المسرح

«أردت أن أستعمل على المسرح الجملة القائلة بان المهم ليس تفسير العالم، بل تغييره»[1]... (بريشت)

بداية الكلام: إن الحديث عن المسرح وقضايا المجتمع بكل تمظهراتها وتشعباتها والعلاقة بينهما، حديث ليس بالجديد، فقد ارتبط المسرح منذ بداياته بالحياة الإنسانية، فكان له تأثير في بناء الإنسان، وتشكيل وعيه بذاته، وتجديد مفاهيمه حول قضاياه التي يقف عندها عاجزا أو متسائلا، ونظرته للحياة بما ينعكس على سلوكه كفرد فاعل في جماعة. يقول سعد الله ونّوس: «إنّنا نريد تغيير وتطويع عقلية، وتعميق وعي جماعي بالمصير التاريخي لنا جميعا...»

هل الرّهان اليوم على المسرح، والفن عموما اليوم، في ظل التّطوّرات المتسارعة، والتّغيّرات الاجتماعية والبيئية والتكنولوجية، والتطوّر الرقمي الخطير، أن يتحدّى ويواجه، ويفتح للأسئلة منافذ للمقاومة والتغيير؟

هل يمتلك المسرح اليوم، آليات المواجهة والتّحدي والمقاومة والتّغيير المنشود، لفتح واجهات يدخل منها ليكّد صلاحيته وقدرته على أن يكون بالفعل، حين تساقط وتخاذل كثيرون؟

لا يختلف اثنان، في كون المسرح أبي الفنون، يمتلك القدرة على تحويل الأفكار والإيديولوجيات، والسّائد والمعيوش، وما يموج به عصر الاتصال والسماوات المفتوحة، بجرأة وفاعلية إلى مشاهد بصرية قوية، منفتحة على السؤال، تحمل داخل فرجتها وحواراتها بوادر التغيير وإرهاصاته التي تُخْرج المتلقي/الجمهور، من حالة السكون والتصفيق والضّحك، إلى حالة الفعل والانخراط في التّحدّي والتغيير، لأنّه المعني في البدْء والانتهاء.

وأمام العجز الواضح والبيّن، والبحث الحثيث عن استغلال الظروف والمناسبات لبعض وسائل التعبير وبعض المسؤولين، وانعدام تحمّلهم لمسؤولية التغيير والانخراط فيه، انبرى المسرح شاهرا أدواته، لا ليأخذ صدارة التغيير كقوة، بل، ولأنّه يعلم علم يقين، أنه يستطيع المواجهة وتغيير الحال والمآل، ليبني أفكاراً وسلوكات بدأت تغيب عن حياة الإنسان المسْتخْلَف في الأرض، هذه الأدوات قد لا توجد في غيره، لأنه أبو الفنون جَمَعَ ما تفرّق في غيره، إذ «يتمتّع بشخصية لها مواصفات منفردة[2]» أهمّها المواجهة الحيّة بينه وبين الجمهور، حين تكون المواجهة بين الصّورة[3] والجمهور مواجهة صامتة تأمّليّة، لا تكاد تخرج عن إطاره الموضوعة فيه، بينما في المسرح، يحضر الآن كزمانٍ حاضرٍ دائماً، والهُنا كفضاء حي قابل للتغيير، للتفاعل والتقارب، حيث تُتَسَرّب الأسئلة والأفكار إلى الجمهور، فينخرط فاعلا إيجابيا حين يتشرّب الصّور والأفكار، فيفكّك شيفراتها، ويصبح بذلك عضوا في المشهد المسرحي الفرجوي، يحمل أفكاره، يوزّعها وهو يعيش واقعه وأيامه، وتملأ وقته، فتُخرجه من السكون اليومي إلى الفعل والتفاعل الدّائم مع الآخر عبر السؤال والنقاش والفعل وردّة الفعل.

والمسرح لا يقف عند تحفيز الخيال الإبداعي والتفكير النقدي عند جمهور الفرجة، وإنما يحفر عميقا في الإنسان وذهنيته، وعقله ومنطقه ومنهجه في الحياة بما يمكّنه من التفاعل، والتغيير، ثم احترام المحيط والوجود الجمعي المشترك. لهذا السبب مازالت الدّعوة ملحّة، وبشدّة، إلى إعلاء الدور الطّلائعي للمسرح في استعادة خطاب التنوير والتمدن، ودعم قيم الحركات التّغييرية الاجتماعية والبيئية والسياسية، وتيسير سبل التّغيير والوعي بأهمّيته، لأنّ العالم اليوم، بحاجة للمعالجة الجمالية التي عُرِف بها المسرح لقضاياه، ولكشف المستور، وفضح المخْبوء خلف أرْدِية الادعاءات والمزاعم والمصالح، وهو على ذلك قادر أن يتحدّى ويُقدّم ما يراه من معالجات بحُرّية وجرأة واستقلالية وموضوعية.

المسرح فُرجةٌ تنفتح على العالم..

وانفتاح المسرح على العالم والجمهور، لا يعني ذوبانه في القضايا اليومية المكرورة والممجوجة، بل يعني قدرته على تحويل الواقع إلى رموز وصور وأسئلة تُضيئُ مناطق العتمة، وتفتح الأفق رحباً أمام احتمالات جديدة للوجود الإنساني. وهو بهذا، يغدو أداة لمقاومة الجمود والسكون، وصوتاً للتّجديد، ومُخْتَبراً للحريّة والتفكير، عبر فُرجاته الواعية التي تُدهش الجمهور بقدْر ما تحرّضه على الفعل والتغيير. ومنذ وُجد المسرح، كان ولا زال فعل إرادة ومقاومة ومواجهة وتغيير، فهو، حسب التعريف الأرسطي لمفهوم الدراما، «فعل نبيل تام»، فالفعل هو أساس المسرح، وهو «فن الفعل لتغيير العالم»، لأنه أكثر الفنون التصاقا بالوعي والدعوة إلى التغيير وتحويل العجز الفكري وانسداده، إلى بوابات مشرعة على اكتشاف الجديد للسُّمُوّ بالفكر الإنساني.

كما أن المسرح ظاهرة تتجدّد وتتطور، من هنا أهميته وكذا خطورته، فهو الفرجة الواعيّة التي من خلالها تنطلق الأفكار لتغذي الذات الإنسانية، عبر القضايا الكبرى: الحرية، العدالة، السلطة، الأخلاق والهوية، وتجعل من الإنسان مفكرًا قادراً على الفعل الذي ينهض عليه المسرح، والتغيير الذي يهدف إليه، فهو حاملٌ لرسائل وجودية إنسانية، لأنه «الحياة في حد ذاتها»، حسب تعريف المخرج بيتر بروك. فالمسرح بهذا المعنى، مواجهة وصراع بين العقل والأفكار، يعمل على تحريكها، وخلخلة ما ركد منها أو ركن إلى الظلّ والسكون، وتحريضها للدفع بالمتلقي/الجمهور إلى العمل واتخاذ المواقف، وتجاوز لحظة الدهشة إلى التأثير وتمرير الأثر لحظة الانخراط في اللعبة فاعلا إيجابيا، مستفزّا وعيه دافعا به إلى التفاعل مع القضايا المطروحة بشكل أكثر وعيا وعمقا، ليترسّخ في ذاكرته الأثر الذي يسعى المسرح إلى تحقيقه.

المسرح مطلبٌ ملحٌّ للتغيير والمواجهة والتّصدي، إبداعيا، في عالم يسير إلى الوراء ثقافيا وأخلاقيا واجتماعيا وفكريا، لأنّه يحمل داخله ما يجعله يجسّد الأزمة، ليس كموضوع للنقاش، بل تحذيراً وإنذاراً يدقُّ ناقوس الانتباه والحذر، وصَرخةً  تحتُّ على المواجهة والفعل، ومرآة تعكس حقيقة المأزق الكبير الذي يُجَرُّ إليه الإنسان، عن وعي أو عن غير وعي، ليتحرك قبل السّكتة، بل أصبح الآن، مدفوعا باستمرار إلى محاولة سدّ الفرجات التي تزداد اتساعا بينه وبين العالم، من دون الدخول في صراعات مع الفنون الأخرى، وذلك بفتح أعين الآخر/الجمهور إلى أن يجد التكامل، لا التنافس، بل لنشر الوعي بمعالجة القضايا والمواضيع الملحّة التي تحيط به، فكان المسرح، وباقي الفنون، لأن له القدرة على التفاعل، بسهولة، بأساليبه وآلياته المتعددة، لتثقيفه ونشر الوعي، وتجديد علاقته بالإنسان ومحيطه.

لذا، عندما يستعصي الحل، أو يتفاقم الوضع، يتقدّم المسرح بكل آلياته، وأساليبه معلنا قدرته على فتح فرجات الأمل وردم هوة اليأس، ويكون حاضرا حضورا فعليا لا حضورا ورقيا أو ترفيهيا محض؛ لأن المسرح يملك من الأمل ما يهيئُ الإنسان ليستقبل بكل وعي فواجع النّهايات ويحفّزه على تجاوز الاحباطات والانكسارات والانخراط في الفعل والتغيير.

والحديث عن المسرح هو بالضّرورة حديث عن الإنسان في تفاعله مع المسرح، من خلال الظواهر التي تؤرّق حياة الإنسان، حين يبحث، لا عن الكثرة الغوغاء التي مع القطيع، بل على الأقل القليل، الذي يدرك الحال ويسعى إلى تغيير المآل، لأن المسرح لا يتوقف عند حدود قيم الترفيه والتفريغ والضحك، بل لحظة وعي عقلي تحليلي نقدي في التفاعل والتلقّي، وتجْسيد التّحوّل من مجتمع أناني متفرّج، إلى مجتمع حضاري مفكّر.

على سبيل الختام..

تأسيسا على ما سبق، كان المسرح ومازال، وسيظل، أكثر من وسيلة للترفيه، قويا للدفاع عن الحياة، عبر النضال، بالمعنى الإبداعي للكلمة، لتُعاش بالكرامة والحريّة والسؤال المُحفّز على التغيير، كما أنّه المرآة التي تعكس هم الإنسان وتطلُّعاته، وصوته حين يُقبرُ صوته، متجاوزاً كونه منبرا للوعي، والدعوة إلى اتخاذ إجراءات ملموسة لحماية مكتسباته الفكرية، أو كونه مكتفيا بطرح القضايا من دون المشاركة الفعلية في أساليب التغيير، بل يسعى جاهدا، وبكل وسائطه المتاحة، إلى إشراك المتلقي/الجمهور في مواجهة التّحدّيات مُحفّزاً على التّحرّك نحو حلول فعّالة ومستدامة، مجسّدا لهذا، صراع الإنسان مع العالم المتغير، عبر المقاومة للتغيير، حاملا بكل جرأة النص والفكرة والجسد والمؤثرات المصاحبة والأمل للتغيير لا التّفرّج والتصفيق ثم نسيان الفعل الذي من أجله يناضل.

في زمن ثقافة التّفاهة والرداءة، وسيران «مصطلحات» أصبحت متداولة على ألسن من يشيع ثقافة التّفاهة، ك: «ماشي سوقي، دخل سوق راسك، عاود لراسك، ونتا مالك..»[4] يمكن للمسرح أن يكون أداة قوية لإثارة الأسئلة حول مصير الإنسان والوجود، ليس فقط عبر الطّرح الفكري، والنّقاشات العقيمة، بل من خلال الفعل الحسي والبصري الذي يستفز المتلقي ويحفّزه على إعادة النظر في علاقته مع الواقع، هذه العلاقة التي أصبحت متوتّرة بفعل اللامبالاة وسيطرت قوى الرداءة والتّفاهة التي تتحكّم في سيرورة حياة النّاس. والمسرح بتوظيفه الفكري والفرجوي الهادف للصراع بين الإنسان والوجود، يسعى إلى بعث الأضواء عل المشهد عموما، والتّصدّي للواقفين المتفرّجين على قطار التّغيير يمر سريعا، غير آبهين أنّهم ينزلقون إلى الهاوية فتح فاها لابتلاع كل شيء جميل.

***

عبد الهادي عبد المطلب 

الدار البيضاء/المغرب

........................

[1] قيس الزبيدي. مسرح التغييرـ مقلات في منهج بريشت الفني. دار ابن رشدـ بيروت. (ص 5)

[2] عوني كروم. الخطاب المسرحيـ دراسات عن المسرح والجمهور والضّحك. السلسلة المسرحية ـ الشارقة

[3] نقصد بالصّورة هنا، اللوحات التشكيلية، الصور التي تعرضها السينما والتلفزة والهاتف... وكل ما يجعل منها أداة للتبليغ والتواصل.

[4] كلمات بالدارجة المغربية التي تعني (هذا أمر لا يهمك ـ لا يعنيك ـ وما دخلك؟ ـ ومن أنت لتُغيّر العالم...)

 

في المثقف اليوم