قضايا
مصطفى غلمان: عِلاجٌ رَقْمِيٌّ أَمْ عُزْلَةٌ جَدِيدَةٌ؟.. مَأْزِقُ العَلَاقَةِ بَيْنَ الإِنسَانِ وَالتِّقْنِيَةِ

"كل توسع في الخارج، إن لم يصاحبه تعمق في الداخل، فهو سقوط في الفراغ." عبد الرحمن بدوي – (الزمان الوجودي) ـ
يعيش العالم اليوم تحوّلاً سوسيولوجياً عميقاً في علاقة الإنسان بالتكنولوجيا، إذ لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرّد أداة تحليل أو وسيلة للبحث، بل صار يؤدي دور المستشار الوجودي الرقمي الذي يقتحم أكثر مناطق الوعي الإنساني حساسية، في الصحة النفسية، والعلاقات الحميمية، وأسئلة الجسد التي طالما حاصرتها ثقافة التابوهات داخل المجتمعات المحافظة.
إن ما يحدث ليس انتقالاً تكنولوجياً فحسب، بل تحوّل أنثروبولوجي في علاقة الإنسان بنفسه وبحدود البوح والمعرفة. هذا التحوّل لم يولد صدفة، بل فرضته حقائق ميدانية صارخة. ففي القارة الإفريقية، حيث تتقاطع الهشاشة الاجتماعية بندرة الكفاءات الطبية، تكشف منظمة الصحة العالمية عن عجز بنيوي مزمن في موارد الطب النفسي. فعدد الممارسين لا يتجاوز 0.9 لكل مئة ألف نسمة، مقابل تسعة على المستوى العالمي.
إنها فجوة صحية وثقافية، تجعل من اللجوء إلى الذكاء الاصطناعي ليس اختياراً، بل اضطراراً رقمياً أمام انسداد الأفق العلاجي التقليدي.
في المغرب، على سبيل المثال، لا يتجاوز عدد الأطباء النفسيين في القطاع العام 317، فيما يظل التخصص في طب نفس الأطفال شبه نادر. وفي الجزائر ومصر الوضع متقارب، حيث يهيمن الحضور التمريضي على حساب الأطر المتخصصة. هذه الأرقام لا تعبّر فقط عن اختلال صحي، بل عن فشل في العدالة المعرفية، أي في جعل الحق في الوعي والعلاج متاحاً للجميع، لا محتكراً داخل المدن أو الطبقات الميسورة.
أمام هذا الخصاص، لجأ الإنسان الإفريقي والعربي إلى ما يشبه "الطب الموازي الرقمي"، روبوتات المحادثة والمنصات الذكية، التي صارت ملاذاً سرياً يجيب على أسئلة محرّمة اجتماعياً، كالاكتئاب والعادة السرية والاضطرابات الجنسية والقلق والعلاقات الزوجية.
إنها أسئلة تتجاوز الطب إلى أنطولوجيا الجسد والهوية، حيث يبحث الجيل الجديد عن خطاب يشرّع له البوح ويحرره من الرقابة الأسرية والطبية والدينية التي كبّلت نقاشاته لعقود.
دراسات حديثة، نُشرت في مجلات مثل BMC Public Health وSexual Health in the Era of AI، تُظهر أن بعض الروبوتات تقدّم إجابات دقيقة نسبيًا، بل تسهم في نشر ثقافة الصحة الجنسية في بيئات يهيمن فيها الخجل الجمعي. لكنها، في المقابل، تظل محدودة بحدود البرمجة واللغة، وتفتقد إلى "الذكاء العاطفي" الذي يجعل الطبيب البشري قادراً على الإصغاء إلى الألم لا إلى السؤال فقط.
ويحذر الخبراء من أن الإفراط في الاعتماد على هذه النماذج قد ينتج عزلة رقمية مضاعفة. فبينما تمنح المستخدم شعوراً بالأمان، تسلبه في الوقت نفسه فرصة التفاعل الإنساني، وتُحوّله إلى كائن يحاور آلة بلا ذاكرة وجدانية.
الذكاء الاصطناعي، في عمقه، ليس مجرد تكنولوجيا بل مرآة لثقافتنا. إنه يكشف هشاشتنا، كسرية علاقتنا بالذات، وكثافة الخوف الذي نغلف به الجسد والمشاعر. لذلك، فإن النقاش لا يجب أن يقتصر على "مدى دقة الأجوبة" بل على منظومة القيم التي تنتج السؤال أصلاً.
بين الحرج والتقدم، بين الحاجة إلى الخصوصية وضرورة الإشراف، يبدو أن الطريق الأمثل هو تأهيل الذكاء الاصطناعي كأداة مساعدة لا بديل للإنسان، وكجسر نحو الوعي لا كقناع للهروب من المواجهة. فالتوازن بين الرقمي والبشري هو الشرط الأخلاقي الجديد لعصرٍ تذوب فيه الحدود بين المعالجة التقنية والعلاج الوجداني. ولعلّ هذا التحوّل الذي نعيشه اليوم في علاقة الإنسان بجسده ونفسيته من خلال الوسائط الذكية، ليس سوى وجهٍ جديدٍ لمسارٍ قديمٍ في الفكر العربي الإسلامي، حين كانت الروح والجسد وحدةً متكاملة في رؤية الوجود والمعرفة. فقد نظر ابن سينا، في "الشفاء" و"القانون في الطب"، إلى النفس باعتبارها جوهرًا عاقلاً يتوسط بين الجسد والعقل الكلي، ورأى أن المرض النفسي ليس مجرد خلل في المزاج، بل اهتزاز في توازن الكيان الإنساني ككل. أما الرازي، فكان من أوائل من ربطوا بين الحالة النفسية والصحة الجسدية، ودعا إلى معالجة المريض بالعقل والرفق قبل الدواء، مؤسسًا بذلك لما يمكن تسميته بـ"الإنسانية الطبية" في الحضارة الإسلامية.
في هذا الأفق، يتبدّى أن الذكاء الاصطناعي، رغم حداثته التقنية، يعيد إنتاج سؤال قديم بصيغة رقمية جديدة، من يفهم الإنسان أكثر؟ أهو الطبيب الذي يقرأ نبض الروح، أم الخوارزمية التي تترجم اللغة إلى معادلات احتمالية؟.
وبينما كان الفيلسوف المسلم يرى في "النفس" مبدأً للتعقل والاختيار، يبدو أن الذكاء الاصطناعي يعيد تعريفها كمجرد "بيانات" قابلة للقياس. وهنا تكمن المفارقة الكبرى: أن نتحول من كائنٍ عارفٍ بنفسه إلى كائنٍ يُفسَّر من قِبل الآلة، في انقلاب ثقافي يعيد طرح سؤال الوعي والحرية في زمن الخوارزميات.
في ضوء هذا الامتداد التاريخي، يبدو أن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة تقنية، بل مرآة حضارية تعكس هشاشتنا الوجودية وارتباك وعينا بذواتنا. فحين يلجأ الإنسان العربي إلى خوارزميةٍ ليسألها عن معنى الألم أو اللذة، عن الخوف أو الرغبة، فإنه لا يبحث فقط عن إجابة، بل عن صوتٍ يسمعه دون أن يُدينه، وعن عقلٍ لا يحمل ذاكرة الأحكام المسبقة. في السياق، تكمن أزمة المعنى في زمن الرقمنة، أن تحلّ الآلة محلّ الاعتراف الإنساني، وأن يصبح "الإنصات الرقمي" بديلاً عن الحوار الاجتماعي والعائلي والثقافي الذي افتقدناه.
لكن في المقابل، قد يكون هذا الانعطاف ذاته فرصة لإعادة التفكير في علاقتنا بالمعرفة والإنسان. فالتحدي الحقيقي ليس في "الذكاء الاصطناعي" ذاته، بل في الذكاء الإنساني العربي: هل يستطيع أن يستعيد منطقه التأملي، وأن يوظف التقنية لا كبديلٍ عن الوعي، بل كوسيلة لتوسيع مداركه؟
إنّ النهضة الممكنة تبدأ من لحظة الوعي بأن الإنسان هو من يمنح الآلة معناها، وأن الحوار بين العلم والروح، بين العقل والخبرة، هو ما يصنع مستقبلًا متوازنًا بين التقنية والإنسانية.
هكذا، لا تكون الخوارزمية نقيضًا للفكر العربي، بل مناسبة لإيقاظه من سباته، كي يستأنف رحلته القديمة في فهم النفس والعالم، بوعيٍ جديدٍ يزاوج بين جذور التراث ورؤى المستقبل.
***
د. مصطفى غَلــــمَــان