قضايا

غالب المسعودي: الكومنتاريا والهيمنة الإمبريالية التكنولوجية

التعريف المفهومي للكومنتاريا وأساسها المعرفي

تُعرَّف الكومنتاريا بأنها ممارسة معرفية مُقاوِمة. نشأت كرد فعل على هيمنة رأس المال الرقمي الذي يصوغ السلوك والذائقة العامة عبر الخوارزميات. إن هذا السياق يعرّض المثقف لخطر "الاستلاب الرقمي"، حيث تُحوَّل المعرفة إلى سلعة ويُحوَّل المثقف إلى مجرد مستهلك للرمز، لا منتج له.

يكمن الدور التحويلي للكومنتاريا في سعيها لإعادة ترميز الواقع وإنتاج أدوات تحليلية جديدة تستعيد موقع المثقف كفاعل رمزي مستقل.

تتميز الكومنتاريا بخصائص تجعلها تتجاوز الأدوار المؤسسية التقليدية للمثقفين:

أولاً: ممارسة لا مركزية، لا تنتمي إلى مؤسسة محددة، بل تتشكل عبر التفاعل الحر في فضاءات متعددة.

ثانياً: متعددة الوسائط، تستخدم النص والمنصة والصوت والصورة والرمز، وتتحرك بين التحليل والتفاعل.

ثالثاً: جدلية، لا تكتفي بالتفسير، بل تعيد إنتاج الأسئلة وتفكك المسلمات.

رابعاً: تحويلية، تسعى إلى تحويل المعرفة إلى فعل، وإلى إعادة دور المثقف كمنتج للوعي.

إن تعريف الكومنتاريا ليس مجرد وصف لوضع قائم، بل هو في جوهره اقتراح تحويلي. يهدف إلى تحويل وظيفة المثقف من حالة الاستلاب الرقمي (الناتجة مباشرة عن الهيمنة الإمبريالية على التكنولوجيا) إلى حالة الفعل الرمزي المستقل. وعليه، فإن نشأة هذا المفهوم تعكس أزمة أوسع في دور القيادات التقليدية وغياب تأثيرها في توجيه المجتمعات نحو مسارات بديلة.

مفهوم "فائض الوعي" كآلية استغلال/مقاومة

في التحليل الماركسي، يقوم فائض القيمة على تقسيم يوم العمل إلى جزأين: وقت العمل الضروري (الذي ينتج قيمة السلع اللازمة لإعادة إنتاج قوة العمل)، ووقت العمل الزائد. وهذا العمل الزائد هو جوهر الاستغلال الرأسمالي التقليدي.

في سياق الكومنتاريا والرأسمالية المعرفية، يشير فائض الوعي إلى قدرة المثقف على إنتاج معرفة تتجاوز الحاجة المباشرة، وتعمل على إعادة تشكيل الذائقة العامة. هذا الفائض الرمزي الهائل هو ما يسعى رأس المال الرقمي لاستغلاله وتحويله إلى قيمة تجارية قابلة للقياس (مثل البيانات، والتفاعل، وتوجيه السلوك الاجتماعي والسياسي). فالهدف الأساسي للرأسمالية الرقمية هو صياغة الذائقة والتحكم في السلوك عبر الخوارزميات، وهذا يمثل استغلالاً معرفياً مباشراً. تحاول الكومنتاريا استرداد هذا الفائض المستغَل وتحويله إلى وعي تحويلي، ما يضعها في موقع طبقة تقاوم شروط وجودها الاقتصادي والمعرفي في آنٍ واحد.

التناقض الكامن في اللامركزية الرقمية

على الرغم من أن خاصية اللامركزية وتعدد الوسائط التي تتمتع بها الكومنتاريا تُعتبر ميزة مقاومة ضد السلطة المؤسسية التقليدية، إلا أن هذه الخاصية ذاتها قد تمثل نقطة ضعفها الأكبر في سياق رأسمالية المراقبة. اللامركزية تعني عملياً غياب جهاز تنظيمي موحد أو مؤسسات ضامنة. في ظل سيطرة المنصات على فضاء الصراع الرمزي، فإن العمل اللامادي (الإنتاج المعرفي المتناثر) والعمل الحر يجعلهما عرضة لـ "الهشاشة."

إن ما يبدو كحرية إنتاجية واسعة تتحول في الواقع إلى شكل جديد من عمالة البيانات المعرفية، يفتقر إلى آليات التنظيم الطبقي التقليدية، مثل النقابات أو الأحزاب الثورية، التي كانت متاحة للبروليتاريا الكلاسيكية. هذه الهشاشة هي نتيجة استراتيجية لرأس المال الرقمي الذي يحوّل التطلعات الاجتماعية إلى مجرد شعارات زائفة عن الاستقلالية، بينما تبقى السلطة الاقتصادية بيد القلة المتحكمة.

الصراع مع الأرثوذكسية البروليتارية

تسعى الكومنتاريا، من خلال مفهوم فائض الوعي، إلى إعادة تأسيس مفهوم الفاعل التاريخي الثوري، مما يضعها في صراع جدلي مع المفهوم الماركسي الكلاسيكي للبروليتاريا.

تُعرّف البروليتاريا في النظرية الماركسية الكلاسيكية بأنها طبقة العمال الحديثين الذين لا يملكون وسائل الإنتاج، ويضطرون لبيع قوة عملهم لمالكي هذه الوسائل، مما يجعلهم سلعة تخضع لتقلبات السوق. وقد اعتبر ماركس وإنجلز هذه الطبقة، التي نشأت في فترة تفسخ النظام الإقطاعي، هي الوحيدة القادرة على قيادة الثورة ضد الرأسمالية وتحقيق الشيوعية عبر مرحلة انتقالية تُعرف بـ "دكتاتورية البروليتاريا".

على الرغم من أن البروليتاريا اليوم تظل طبقة الأغلبية على هذا الكوكب، فإن الساحة السياسية العالمية تشهد غياباً سياسياً مؤثراً لها. يشير التحليل النقدي إلى أنه لا توجد أحزاب أو منظمات حالياً تمثل مصالح الطبقة العاملة بشكل فعال، ما أدى إلى تراجع تأثيرها في الأحداث العالمية. وقد أدى هذا الغياب السياسي إلى تأكيد العديد من المثقفين على أن الطبقة العاملة قد "اختفت" أو لم يعد لها وجود.

يفرض هذا الواقع، إضافة إلى التحول الاقتصادي العالمي من الصناعة الثقيلة إلى الرأسمالية الرقمية، ضرورة إعادة النظر في مكان الصراع وأساس القيمة، والانتقال من الاعتماد على فائض القيمة المادي إلى التعامل مع فائض الوعي الرمزي.

الكومنتاريا كـ "بروليتاريا معرفية"

يمكن النظر إلى الكومنتاريا كـ "بروليتاريا معرفية" تسعى لملء الفراغ السياسي الذي خلفه الغياب النسبي للبروليتاريا الصناعية الكلاسيكية. إنها تسعى لتحويل المعرفة إلى فعل، مما يشابه المهمة التاريخية للبروليتاريا في تحقيق "الوعي الطبقي" القادر على تحويل البنية التحتية.

تتقاطع الكومنتاريا مع البروليتاريا الكلاسيكية في عنصر الاستغلال والهشاشة. فبينما كان الاستغلال الكلاسيكي يتمحور حول العمل المادي الزائد، فإن الاستغلال الحديث (رأسمالية المراقبة) يتمحور حول العمل اللامادي، والبيانات، والعمل الحر غير المؤمّن الذي يولد فائض الوعي.

لكن مأزق "التأصيل" يظهر بوضوح في زمن التشتت. فمحاولة التأصيل الماركسي للكومنتاريا كطبقة موحدة تصطدم بواقع تشظي الطبقة الوسطى المثقفة تاريخياً، خاصة في السياق العربي، حيث تكونت كطبقة "وظيفية" وليست نتاجاً لعلاقات إنتاج متجانسة. أي محاولة لـ "التأصيل" البروليتاري المعرفي ستكون عرضة للهشاشة والانقسام الداخلي ما لم تنجح في تحويل اللامركزية المبدئية للكومنتاريا إلى قوة تنظيمية قادرة على مواجهة الهشاشة الإنتاجية التي تفرضها المنصات الرقمية.

إن الاعتراف بـ "فائض الوعي" كآلية استغلال جديدة هو اعتراف بأن الرأسمالية قد نجحت في احتواء الثورة التكنولوجية وتحويلها إلى أداة لـ "الاستعمار الرقمي الجديد". إذا كان فائض الوعي هو أساس الاستغلال، فإن الكومنتاريا هي بالفعل طبقة مستغَلة. لكن تأسيسها كطبقة يقتضي أن تمتلك وعياً عميقاً بمسألة الاستغلال هذه (إنتاج الوعي لا مجرد نقله)، مما يضع الكومنتاريا في وضع جدلي، فهي تُنتِج الوعي الذي يُستغَل، وتقاوم هذا الاستغلال من خلال الممارسة الجدلية.

نقد الفاعل الموحد وموروث الطبقة الوظيفية

لقد كانت الطبقة الوسطى العربية، التي تشكل الطبقة المثقفة جزءاً منها، طبقة وظيفية مشتقة في سياق ما بعد الاستعمار. لم تتشكل نتاجاً لتطور طبيعي لعلاقات إنتاج متجانسة، بل صُنعت مؤسسياً لملء الفراغ الإداري والمعرفي. وكانت مهمتها الرئيسية هي التدبير والنقل والتنظيم، لا الإنتاج الخالق للقيمة. ونتيجة لذلك، ارتبطت هذه الطبقة بالسلطة لا بالمجتمع، وبالأيديولوجيا لا بالفعل التاريخي، ما جعلها عرضة للتشظي الداخلي وعدم القدرة على حمل مشروع تغييري جذري أو ممارسة وظيفة نقدية تجاه البنية الاجتماعية.

لذلك تأتي نزعة المغايرة الاصطلاحية كنقد لتيارات فكرية سابقة، ترفض المركزية الأوروبية التي ترى في الحضارة العالمية حضارة واحدة، وتنقد الآليات الذهنية الصلبة والفكر المستورد. تدعم نزعة المغايرة تفكيك مفهوم الذات الثورية الموحدة، وهو ما يتوافق مع أفكار ما بعد البنيوية؛ حيث أشار مفكرون مثل ميشال فوكو وجيل دولوز إلى أن علاقات القوة موجودة في كل حقل اجتماعي، وأن الحرية متوفرة في كل مكان، لكنها تصبح مقيدة عندما تتحول إلى حالة هيمنة.

إن التوتر بين الوظيفية والمقاومة يظل قائماً. فالكومنتاريا، كوريث تاريخي للطبقة المثقفة، تعاني من تشظٍ داخلي هو نتيجة لكونها طبقة وظيفية في البنية الرأسمالية. المقاومة تتطلب التحرر من هذه الوظيفية والعودة إلى إنتاج "العمل الخالق للقيمة"، ولكن في رأسمالية المراقبة، يُستغل العمل المعرفي اللامركزي نفسه.

الكومنتاريا، بخصائصها اللامركزية وتعدد وسائطها ورفضها لـ "التعريف المغلق"، أقرب إلى هذا المفهوم منه إلى مفهوم الطبقة الماركسي الأحادي. إن التزام الكومنتاريا بالمنهج الجدلي الذي يرفض الاكتفاء بالتفسير ويعيد إنتاج الأسئلة، يتوافق مع الأهداف النقدية الجذرية للنظرية النقدية (مدرسة فرانكفورت) التي تسعى لنقد المجتمع والواقع وتحدي الهيمنة.

إن نزعة المغايرة الاصطلاحية توفر للكومنتاريا حماية نظرية ضد خطر التصلب الأيديولوجي أو تكرار أخطاء الطبقات المثقفة السابقة التي سقطت في فخ الوظيفية. فالتوحد كطبقة يجعل الفاعل قابلاً للاستهداف والاحتواء، بينما تبني المغايرة (الكثرة) يضمن التفاعل النقدي المستمر وكسر الحواجز بين الحقول المعرفية، مما يجعل المقاومة دائمة التجدد وغير قابلة للتصنيف السهل. ومع ذلك، يكمن التحدي في أن حرية الإنتاج تؤدي إلى استغلال متزايد (التأصيل المستلب) ما لم يتم تنظيمها بشكل يحمي العامل المعرفي.

طبيعة الهيمنة الإمبريالية الرقمية ورأسمالية المراقبة

شهد الفضاء الرقمي تحولاً جذرياً، حيث لم تعد الإنترنت تمثل "المدينة الفاضلة" التي بُشّر بها في بداياتها. اليوم، تحولت كافة التقنيات الرقمية الحديثة إلى ساحة صراع اقتصادي وتجاري تخوضه التكتلات الرأسمالية الكبرى، وهو ما يُسمى بـ "الاستعمار الرقمي الجديد". هذا الاستعمار يتضافر مع الرأسمالية الصناعية والتقليدية لتحقيق أهداف الهيمنة، التي تقوم في جوهرها على الاستيلاء على الموارد الخارجية (البيانات) واحتكار القطاعات الاقتصادية.

تعتمد الهيمنة الإمبريالية الرقمية بشكل أساسي على "رأسمالية المراقبة"، حيث يخضع المجتمع لآليات تحكم وقياس كمّي تديرها الشركات الرقمية بمنطق تجاري بحت. هذه الشركات، المدعومة بتطور الذكاء الاصطناعي، وسّعت من قدرتها على المراقبة واستغلال البيانات بطرق غير مسبوقة.

على المستوى الرمزي والسياسي، تستخدم الهيمنة الإمبريالية التكنولوجيا كأداة لتشويه الحقيقة وإعادة إنتاج الخطاب الدعائي والتضليل الإعلامي، عبر استغلال تحليل البيانات الضخمة والخوارزميات الذكية لتوجيه المعلومات. هذا السيطرة على أدوات الترميز يضعف قدرة الجماهير على اتخاذ قرارات سياسية مبنية على وعي نقدي حقيقي.

إن التحدي الأكبر يكمن في أن الهيمنة الإمبريالية تستغل التشظي الطبيعي للكومنتاريا وتعمقه عبر التضليل والخوارزميات الموجهة. لذلك، فإن الفعل التحويلي للكومنتاريا يقتضي بالضرورة أن يكون موجهاً نحو مقاومة السيطرة على البنية التحتية الرمزية، أي الضغط من أجل شفافية الخوارزميات وتطوير تقنيات التشفير كأدوات مادية ضرورية لتحقيق الاستقلال الرمزي.

يجب على الكومنتاريا أن تتجنب الوقوع في فخ الوظيفية المرتبطة بالسلطة أو الدولة، وأن تتبنى نقداً جدلياً ينطلق من الواقع المحلي والسياق الإمبريالي الرقمي المعاصر، مما يضمن أن نزعة المغايرة تتحول إلى قوة تنظيمية بدلاً من أن تكون نقطة ضعف اقتصادية.

***

غالب المسعودي

...................

المراجع

عبد الجليل البدري: الكومنتاريا كطبقة معرفية جديدة - صحيفة المثقف

د. صالح نجيدات: دور مواقع الانترنت والمثقف في توجيه مسار المجتمع - كل العرب (ahewar.org)

عبد الحسين سلمان عاتي: ماركس وفائض القيمة - الحوار المتمدن (elayem. news)

الرأسمالية الرقمية.. من هم عبيد العصر الجديد - الأيام نيوز

اقتصاد العمل الحر في العصر الرقمي - Fiber Connect Council MENA (fiberconnectmena.org)

في المثقف اليوم