قضايا

سامح مرقس: الثقافه العلميه.. احتياج اساسي لتقدم اي مجتمع

إن تعزيز الثقافة العلمية يعني ترسيخ قيم العلم وأساليبه في نسيج المجتمع، وجعل فهم العلوم متاحاً للجميع. وتساهم الثقافة العلمية في مكافحة المعلومات المضللة، وتساعد الناس على التمييز بين الحقائق القائمة على الأدلة والعلوم الزائفة أو نظريات المؤامرة. كما أنها تساعد المواطنين على اتخاذ قرارات مستنيرة في مجالات مختلفة مثل الصحة والبيئة والتكنولوجيا. إضافةً الي ذلك، فهي تعزز الفضول الفكري وتشجع التفكير النقدي وتُهيئ المواطنين للتعامل بشكل أفضل مع تحديات الحياة.

يمكن نشر الثقافة العلمية بفعالية بطرق متنوعة، مثل استخدام القصص لجعل الأفكار المعقدة مفهومة. كما أن دمج العلوم في الأفلام والألعاب والفنون البصرية يساعد في الوصول إلى جمهور أوسع. وتُعد المحاضرات والمهرجانات والمشاريع العلمية التفاعلية أدوات قيّمة في هذا الصدد أيضًا. علاوة على ذلك، فإن ترجمة الكتب المهمة حول الثقافة العلمية وحياة العلماء الذين حققوا إنجازات علمية كبيرة، مثل نيوتن وأينشتاين وداروين وغيرهم، إلى اللغات المحلية يساعد على تعزيز الاهتمام بالمعرفة العلمية.

إن نشر الثقافة العلمية لا يقتصر على الحقائق فحسب، بل يشمل أيضاً بناء رؤية موضوعيه تُقدّر الأدلة، وتتقبل الشك، وتسعى إلى الحقيقة من خلال البحث عن مصادر المعرفة العلمية والثقافية والفلسفية مع استخدام التحليل النقدي.

إن أفضل الأشخاص لنشر الثقافة العلمية ليسوا العلماء أنفسهم، بل هم الكتاب والمترجمون المتخصصون في نشر المعرفة العلمية وجعل العلوم في متناول الجميع. يلعب المعلمون أيضًا دورًا مهمًا في تشكيل عقول الشباب، وغرس حب الاستكشاف لديهم، وتشجيعهم على استخدام التفكير العلمي في سلوكهم اليومي. أما الصحفيون، فعليهم دمج الثقافة العلمية في الخطاب العام، ومواجهة المعلومات المضللة، وتوضيح الطابع الإنساني في الاكتشافات العلمية.

يلعب الفنانون أيضًا دورًا مهمًا في نشر المعرفة العلمية من خلال الرسوم التوضيحية البسيطة للمفاهيم العلمية المعقدة، والأعمال الدرامية التي تصور حياة العلماء والمفكرين العظماء.

يجب على المثقفين ربط العلم بالفلسفة والأخلاق والتغيير الاجتماعي لما فيه مصلحة الجمهور. وينبغي على السياسيين والمنظمات غير الحكومية ضمان استخدام العلم في عملية صنع القرارت المتعلقة بالصحة والمناخ والتكنولوجيا.

ينبغي استخدام أسلوب لغوي واضح وسهل الفهم عند نشر المعلومات العلمية لبناء الثقة مع الجمهور وإثارة فضولهم. قال عالم الفيزياء الأمريكي ريتشارد فاينمان، المشهور بتدريس الفيزياء بطريقة تأسر الطلاب "تزدهر الثقافة العلمية عندما لا يُنظر إلى المعرفة على أنها مجرد أداة نفعية، بل كبوابة لفهم أعمق للكون".

إن العلاقة بين نشر الثقافة العلمية وتنوير المجتمع عميقة ومؤثرة. لا تقتصر الثقافة العلمية على الحقائق والمعادلات فحسب، بل تشمل أيضًا تنمية عقلية متجذرة في العقل والبرهان والفضول والتفكير الأخلاقي. عندما تتغلغل هذه الثقافة في المجتمع، فإنها ترسي الأساس لشكل حديث من أشكال التنوير. تعمل الثقافة العلمية على تعزيز التنوير المجتمعي من خلال تنمية التفكير النقدي والتشكيك، وتعزيز الاستقلال الفكري، واستبدال الخرافات بالفهم القائم على الأدلة.

تشجع الثقافه العلميه التواضع، والقدرة على التكيف، والتقدم من خلال التصحيح الذاتي. كما توسع الآفاق إلى ما هو أبعد من الرؤى المحلية أو القبلية، نحو وعي عالمي وكوني، وربط المعرفة بالمسؤولية الاخلاقيه.علاوه علي ذلك تؤدي الثقافه العلميه الي دمقرطة المعرفه، وتمكين المواطنين من المشاركة في تشكيل مستقبلهم.

يُوضح التاريخ أهمية الثقافة العلمية وكيف ازدهرت أوروبا تحت تأثير الثورة العلمية بعد أن عانت من التدهور خلال العصور الوسطى، عندما تم قمع البحث الحر بسبب القيود الدينية والاجتماعية. وقد اعتمد رواد عصر التنوير في أوروبا على المبادئ العلمية لتحدي النظام الملكي والسلطة الدينية والظلم الاجتماعي، وشجعوا على استخدام العقل ومقاومة المعلومات المضللة واحتضان التعددية والحرية الفكرية.

من بين أهم الثورات العلمية في التاريخ الأوروبي، نذكر الثورة الكوبرنيكية التي نقلت مركز الكون من الأرض إلى الشمس؛ والثورة الداروينية التي نقلت البشر من قمة ميتافيزيقية إلى موقع عضوي داخل الطبيعة، وان الإنسان ليس مخلوقاً متفرداً في جوهره، بل نتيجة لسلسله من التطورات تشاركه فيها الكائنات الحية الأخرى؛ والثورة الفرويدية التي كشفت عن محدودية قدرة الذات على التحكم في أفعالها وأفكارها. وقد غيّر هذا المنظور مفاهيم الإرادة الحرة والمسؤولية الأخلاقية ومعنى الهوية الإنسانية.

اوضح فيلسوف العلم كارل بوبر ان العلم ليس استقراء بل استنتاج نقدي، أي أننا نصوغ فرضية عامة ثم نختبرها بالتجارب، فإذا صمدت زاد قبولها، وإذا انهارت نستبدلها. وما يميز

العلم عن اللاعلم انه قابل للاختبار والتكذيب بينما التفسيرات الغير علميه مثل التنجيم أو التحليل النفسي غير قابلة للتكذيب، وان معيار العلم ليس "التحقق" بل "القابلية للتكذيب”. العلم عند بوبر ليس عملية تراكم يقيني، بل هو سلسلة من المحاولات الجريئة التي تخضع للنقد والاختبار. وهكذا فإن التقدم العلمي مشروط بالإقرار بإمكانية الخطأ والانفتاح على التصحيح المستمر. وللعلم دور مزدوج: فهو يهدف إلى تفسير الظواهر الطبيعية وايضا التحكم فيها. ويستخدم العلم الرموز والمعادلات كوسيلة لتوصيل المعرفة بدقة.

في الختام، الثقافة العلمية هي محرك التنوير الحديث، فهي لا تقتصر على إنارة العالم فحسب، بل تعلمنا أيضًا كيفية الاستمرار في طرح أسئلة أفضل في عصر تغير المناخ وأخلاقيات الذكاء الاصطناعي، والتحديات الصحية العالمية.هذه الثقافة ليست ترفاً، بل ضرورة. كما أنها تُظهر أن العلم لا يقتصر على تفسير الظواهر فحسب، بل يغير أيضاً الصورة الذاتية للانسان وتصوره لمكانته في العالم.

والتفكير العلمي كما قال الدكتور خالد منتصر مزعج للأشخاص الكسالى الذين يريدون حلولاً جاهزة تسقط عليهم من السماء، ولكنه مبهج لأولئك الذين يستمتعون بطرح الأسئلة ويسعون جاهدين لصياغتها وحماية من يطرحونها.

***

بقلم استاذ دكتور سامح مرقس

استاذ الاشعه التشخيصية السابق، جامعه شفيلد، انجلترا

 

في المثقف اليوم