قضايا
علي الخطيب: حين فكّرت كشرطي.. رؤية فلسفية شخصية ذاتية
في الطابع العملي للتفكير الناقد
كثيرا ما أرى أن هناك انطباعا يترسخ في أذهان الكثيرين من الناس، مفاده أن الفلسفة مجال نظري منفصل تماما عن الواقع الذي يعيشونه، أو بالأحرى لا علاقة لها بمشكلات الحياة اليومية مطلقا. غير أني أكاد أجزم - بناء على تأملي - بأن القراءة المتأنية في موضوع التفكير الناقد، بوصفه أحد الموضوعات المهمة في الفلسفة، قد كشفت لي عن أمر مغاير تماما لما يعتقده هؤلاء الناس؛ إذ تتمحور قناعتي في أن الفلسفة لا تقتصر على التنظير المجرد كما يتوهمون، بل تهتم – في جوهرها – بتمكين الإنسان من التفكير السليم، واتخاذ الحكم الرشيد، والتعامل الواعي مع الأدلة والحجج.
ومن هذا المنطلق، أرى أن التفكير الناقد يمكن أن يصبح ممارسة إنسانية لا يقتصر وجودها على المتخصصين في الفلسفة فحسب، بل تتجلى - بدرجات متفاوتة - في كل إنسان يستخدم عقله في فهم ما حوله.
ولعل ما يؤكد ما أزعمه أننا لو نظرنا إلى الرجل العادي لوجدناه يربط بين ظاهرة وأخرى، أو يفسر موقفا بناء على قرائن، فيمارس نوعا من الاستدلال العقلي، حتى وإن لم يدرك أنه يستخدم بنية التفكير الفلسفي نفسها. والجدير بالذكر أن أبرز تجليات التفكير الناقد يمكن أن تظهر بوضوح في بعض المهن التي تتطلب تحليل الأدلة، واستنتاج النتائج، وتفنيد الاحتمالات، ولعل من أبرزها مهنة رجال الشرطة؛ أي مهنة التحري من أجل التوصل إلى كشف ملابسات الجريمة.
وهذا يعني أنني أريد أن أقول إننا لو نظرنا إلى رجل الشرطة، فسوف نجد أنه يشبه الفيلسوف الذي يتفلسف تفلسفا عمليا. وبكل تأكيد، عندما يسمع البعض حديثي، سيسارعون إلى التساؤل: كيف يحدث ذلك؟ وسؤالهم هذا - في حقيقة الأمر - نابع من إغفالهم لأهمية الفلسفة، لا من خطأ في الفكرة ذاتها.
ومهما يكن من أمر، فإنني أرد على المتسائل قائلا: إننا كثيرا ما نسمع أحد رجال الشرطة يقول بثقة: "وضعت خطة متخرّش الميّة حتى وصلت للمجرم." ومن يتأمل هذه العبارة يجدها في حقيقتها تصف عملية استدلال فلسفية متكاملة؛ إذ يبدأ رجل الشرطة بجمع المعطيات (الملاحظات)، ثم يصوغ منها فرضيات، ويختبرها في ضوء الوقائع، ويستبعد الفروض التي لا تصمد أمام الأدلة.
وهذا هو ما نسميه في الفلسفة استخدام العقل بطريقة ناقدة في صورته الأنقى: عقل لا يقبل بالظاهر، بل يفتش في الأعماق، ويزن الأقوال بالأفعال، والنية بالنتيجة.
وبالتالي، إذا تأملنا سير عمل المحقق أو رجل الشرطة، لوجدناه يتبع الخطوات نفسها التي يسير عليها الفيلسوف أو المنطقي:
1- الملاحظة الدقيقة للوقائع.
2- صياغة فرضيات تفسيرية متعددة.
3- اختبار الفرضيات بالأدلة الواقعية والمقارنة بينها.
4- الوصول إلى استنتاج مبرر، مبني على الترجيح العقلي.
هذه هي المراحل نفسها التي يقوم عليها التفكير الفلسفي الاستدلالي. فالشرطي - من حيث لا يدري - يمارس ما يعرف في الفلسفة بـ"المنهج الاستنباطي" عندما يفسر السلوك بناء على قواعد عامة، و"المنهج الاستقرائي" حين يشرع في بناء قاعدة عامة من خلال تتبع الجزئيات.
ومن ثم يمكننا أن نتعلم من هذا التقاطع أن التفكير الناقد، كما تكشفه هذه المقارنة، ليس نشاطا تجريديا، بل أداة لفهم الواقع واتخاذ القرار السليم. وإن رجل الشرطة الذي يمارس الاستدلال للوصول إلى الحقيقة، والفيلسوف الذي يمارس النقد لاختبار صدق الفكرة، كلاهما يجتهد في خدمة قيمة واحدة: الحقيقة. وإذا كانت الفلسفة قد منحتنا الإطار النظري للتفكير الناقد، فإن التطبيق الميداني في حياة الناس - كعمل رجال الأمن أو القضاء أو الطب وغيرهم - يبرهن على أن الفلسفة حاضرة في تفاصيل الحياة، حتى وإن غابت تسميتها.
لذلك، وفي خاتمة رؤيتي وتأملي الشخصي، أوصي ببعض التوصيات، وأنا على علم تام بأن كثيرا من المؤسسات قد بدأت بالفعل بالاهتمام بالتفكير الناقد منذ فترة؛ غير أني أعيد التأكيد على ضرورة تضمين مهارات التفكير الناقد في التعليم المهني، وخاصة في كليات الشرطة والقانون والإعلام، بحيث يدرك المتدربون أن التفكير العقلي المنظم هو أداة نجاحهم الأساسية. كما أوصي بالربط بين الفلسفة والممارسة العملية في المناهج الجامعية، لتجاوز الصورة النمطية عن الفلسفة بوصفها ترفا ذهنيا، وإبراز بعدها التطبيقي.
وأدعو كذلك إلى تشجيع البحوث البينية التي تربط بين علم الفلسفة ومجالات مثل علم الجريمة والتحليل السلوكي، لإثراء فهمنا لآليات التفكير في الممارسة الواقعية. وأخيرا، ينبغي نشر ثقافة التفكير الناقد في المجتمع عبر الإعلام والتعليم، لترسيخ قيم التريث، والتحقق، واحترام الدليل.
خلاصة القول: إن التفكير الناقد، في جوهره، ليس ملكا للفلاسفة وحدهم، بل هو ملكة إنسانية يعيش بها الإنسان بوصفه كائنا عاقلا حرا. ومن ثم يمكنني القول بكل اطمئنان: إذا كان الفيلسوف يبحث عن الحقيقة في الكتب، فإن رجل الشرطة يبحث عنها في مسرح الجريمة، وكلاهما - في نهاية المطاف - يسيران في طريق واحد، هو المنهج الذي يتبعه العقل في بحثه عن إدراك الحقيقة كما هي (الصدق) ومحاولة فهم مغزى الوجود والأفكار والقيم (المعنى) بوصفهما غاية المعرفة والتفكير الفلسفي.
***
د. علي الخطيب - مصر






