قضايا

كريم الوائلي: استبداد بلا سياط: كيف يُعاد إنتاج الطغاة؟

تخضع مجتمعاتنا العربية والإسلامية لسلطاتٍ متنوّعة: فكرية ودينية وسياسية، ويتأكد هذا الخضوع ضمن إطار هذه السلطات، ويتجلّى عبر ما نطلق عليه الوعي الزائف، الذي لا يرى نفسه في حالة استلاب، بل يظنّ أنه حرّ، غير أنّه في حقيقة الأمر لبنةٌ في بناءٍ أشمل لمنظومةٍ تعيد إنتاج ما تم إنتاجه سابقًا من طاعةٍ عمياء وتبعيةٍ مطلقة في مفاصل الحياة المختلفة.

وتكون نتائج ذلك واضحة في التربية داخل البيت والجامع والمدرسة والإعلام، إذ تتأسس على القبول بما يُقال دون نقاشٍ أو مساءلة، ويترسّخ بمرور الزمن حتى يصبح جزءًا من ثقافة السلطة، ويُتعامل معه بوصفه قدرًا أو تشريعًا مقدّسًا لا يجوز نقضه.

ولا يعكس الوعي الزائف جهل الإنسان أو المجتمع، بل هو في أحسن الأحوال ثقافة مغشوشة تُقدَّم على أنها حقائق ومسلمات مطلقة غير قابلة للنقاش، وتُدسّ كالسموم في أذهان الناس منذ الطفولة عبر المؤسسات الاجتماعية المختلفة: المدرسة، والجامع، والإعلام، والعائلة. وبهذا يُروَّض العقل ليقتنع تمامًا بما لديه، ويكفّ نهائيًا عن فضول المعرفة ومساءلة ما يُزوَّد به من أفكار. ومن ثمّ يقود هذا كله إلى الطاعة، بمعنى أنّه لا يُطلَب من الناس أن يفكروا، بل أن يُعيدوا ويكرّروا ويُطيعوا ويحفظوا المتون ويعيدوا إنتاج ما تم إنتاجه منذ مئات السنين، في إعادةٍ للثبات وترسيخٍ لأركان النظام القائم.

ولعلّ أخطر ما في الوعي الزائف أنه يجعل من الاستكانة والخضوع مظهرًا من مظاهر الحرية، وكأنها اختيارٌ حرّ، فالطالب لا يسأل، بل يتلقى المعرفة باستسلامٍ وخضوعٍ تامين، والمواطن لا يحتجّ لأنه يُسلّم تسليمًا كاملًا بما تفرضه ثقافة السلطة عليه، والمؤمن يلتزم بالاستسلام وبقدر الله، فلا يناقش، بل يتماهى في سلبيةٍ تامة كالجالسين في الجامع في خطبة الجمعة. إنهم جميعًا يعتقدون أن ما يقومون به هو الصواب والاختيار الحرّ لإرادتهم. ويرجع ذلك إلى أنّ ثقافة السلطة وتعليمات مشايخ الدين تكافئ التلقي السلبي المستسلم وتعاقب من يتساءل أو يعترض، لأن الثقافة المطلوبة هي ثقافة الطاعة الصامتة.

إنّ المدرسة تؤكد أهمية التلقي السلبي، فالإبداع فيها لا يعني اكتشاف الجديد، بل استرجاع ما حفظه الطالب. ولا بد لهذا التلقي أن يقترن بقدرٍ كبير من الانضباط، ولهذا تُعلِّم المدرسة التلقي ولا تُعلِّم التفكير. أما الخطاب الديني فيزرع الخوف في قلوب المؤمنين، ولا يقبل منهم الحوار أو النقاش، ولا يفسح مجالًا للشكّ، فيتحول إلى ثقافةٍ تزرع في نفوس الأطفال الطاعة العمياء والتسليم المطلق لما يتلقونه من تعليماتٍ وأفكارٍ وتصورات.

وتنبثق عن هذا المشروع التربوي شعارات ومقولات تُعمّق ثقافة الخضوع، مثل: احترام الكبير، وطاعة وليّ الأمر، وعدم الجدال في الدين، والفتنة أشدّ من القتل، واسأل بأدبٍ ونفّذ بتسليم، ويد الله مع الجماعة، ومن شذّ شذّ إلى النار. وهذه الصيغ كلها تؤكد أهمية السكون والتسليم المقدس، وكأنّ الإنسان يعيش في قفصٍ ذهنيٍّ لا يرى قضبانه، ومع ذلك يشعر بالسعادة فيه، غافلًا عن أنه يقيده ويحجزه ويسلبه حريته وشخصيته وإرادته.

إنّ الخضوع هنا صناعةٌ لا تُفرض على الناس بالقوة، وإنما تأتي عبر تقنياتٍ ناعمة وآلياتٍ سلسة. لذلك يُربَّى الإنسان على الشعور بالذنب إن سأل، ويُتَّهم بالوقاحة إن ناقش، وبالكفر إن شكّ، ويُنبذ من الجماعة ويُقصى خارجها إذا حاول التفكير بصوتٍ عالٍ أو تجرّأ على رفض عادةٍ بالية أو تقليدٍ قديم.

وهذا ما يُمكّن الأنظمة المستبدة ـ حكوماتٍ ومشايخَ وقساوسةً ـ من تثبيت الحياة والمجتمع، وترسيخ السلطتين السياسية والدينية، حتى يغدو الاستبداد مبرَّرًا ومطلوبًا، ويُعَدّ وسيلةً للأمان والاستقرار. بل إن المجتمع نفسه يهاجم من يرفض الاستبداد ويسعى إلى التغيير، ويُعيد صياغة حاضره في ضوء الماضي وقوانينه وشرائعه.

أما الحاكم المستبدّ فيتحول إلى ضرورةٍ تجب طاعته، وإن جلد ظهرك وسلب مالك وهتك عرضك. كما يصبح الفقر اختبارًا للإيمان لا دافعًا للثورة، ويُعدّ الصمت قيمةً إيجابية ونوعًا من التقوى. والغاية من كل ذلك هي تعليم الناس ألّا يسألوا، بل ألّا يفكروا حتى في السؤال.

إنّ هذه البنية الصارمة لا تتغيّر بتبدّل رئيس السلطة أو إمام الجامع، لأن القادم لا يختلف عن الذاهب، وإنما يبدأ التغيير من تحرير الذهن وإعادة صياغة العقل الإنساني من جديد، بحيث يكون التعلم حرًا، ويُتاح للإنسان حقّ التساؤل وحرية الشكّ. فالسؤال لا يُعدّ خروجًا عن الجماعة أو طريقًا إلى الفتنة، بل هو طريق الإيمان الحقّ والسعي نحو كرامة الإنسان.

إننا نولد أحرارًا لا خاضعين بالفطرة، لكننا نتعلم الخضوع ونقدسه بمرور الزمن بفعل الوعي الزائف الذي نشأنا عليه. لذا ينبغي أن نتعلم ونعلم الآخرين أن يسألوا ويراجعوا أفكارهم بقراءةٍ نقدية، وأن يجاهروا بما يرونه حقًّا، وإن كان صادمًا. فهذه هي البداية الحقيقية للتحرر.

***

د. كريم الوائلي

 

في المثقف اليوم