قضايا

علي الخطيب: سجى والفلسفة التي تسكن الفعل البريء.. رؤية فلسفية شخصية

الملخص: هذه رؤية فلسفية شخصية تنبثق من تجربة إنسانية عميقة بين أب وابنته، حيث تحولت قطعة حلوى صغيرة إلى درس في الفلسفة العملية، وإلى مرآة ترى فيها الروح معناها الأول في الخير والعطاء. ففي موقف يومي بسيط أدركت أن الفلسفة لا تكمن في السؤال عن ماهية الخير بقدر ما تتجلى في ممارسته دون وعي نظري، وأن الطفل قادر على أن يجسد الفضيلة في سلوكه البريء قبل أن يتعلم اسمها في الكتب. لقد علمتني ابنتي سجى، التي تقترب من عامها التاسع، أن الفلسفة ليست علمًا للكبار ولا حكرًا على النخبة، بل هي حياة تُعاش بالحب والصدق، وأن أفعال الطفولة الصغيرة تختزن في بساطتها أعمق دروس الحكمة والإنسانية.

التمهيد: حين تولد الفلسفة من الحنان

كنت أظن أن الفلسفة حوار بين العقول، حتى اكتشفت أنها في حقيقتها حوار بين القلوب. وتولد الفلسفة حين يسأل الإنسان عن المعنى، لكنها تزدهر حين يحب بصدق. وفي بيتي الصغير، ووسط انشغالات الحياة اليومية، كانت ابنتي سجى بقلبها النقي وضحكتها التي تملأ المكان تعيدني كل يوم إلى الدهشة الأولى، دهشة الفيلسوف الذي يرى العالم بعين طاهرة كما يراه الطفل. لقد وجدت في تصرفاتها البسيطة فلسفة عميقة، كأنها تقول لي بصمتها إن الحكمة لا تُلقن بل تُحس. ومنذ ذلك اليوم أدركت أن الأبوة ليست مجرد رعاية للجسد، بل رحلة مشتركة في اكتشاف المعنى.

المحور الأول: فلسفة الحلوى.. حين يصبح العطاء درسًا في الوجود

لم أكن أتخيل أن أعظم دروسي في الفلسفة سوف أتعلمها من طفلة صغيرة تحمل في يدها قطعة حلوى وتضحك بخفة وهي تقول: غمض عينيك يا بابا. كنت أبتسم وأغلق عيني، فأجد في فمي قطعة من السكر وفي قلبي حلاوة لا يذيبها الزمن. لم تكن سجى تعرف أنها في تلك اللحظة تمارس درسًا في الفلسفة العملية، وأنها تجسد بمحبتها فكر أرسطو حين قال إن الخير هو ما يفعل لأجل ذاته لا انتظارًا لمكافأة. وفي تلك اللفتة البسيطة أعادت تعريف العطاء لا كتصرف اجتماعي، بل كمعنى وجودي يربط بين الحب والكرم والإنسانية. وكنت أرى في فعلها الصغير ضوءًا خفيًا يذكرني بأن الفلسفة ليست فكرًا يتعالى على الحياة، بل حياة تضيء الفكر.

المحور الثاني: سجى وميلاد الخير الفطري

كانت سجى تمتلك عادة لا تشبه عادات الأطفال الآخرين. فكلما اشترت شيئًا من الحلوى أو الطعام تركت لي قطعة صغيرة منه. ولم تكن تفكر في الواجب ولا في الثواب، بل كانت تمنح من فطرتها الأولى، من نبع صاف لا يعرف الحساب. وكنت أختبر نفسي وأقول في سري: ربما هذه المرة سوف تنساني، لكنها لم تفعل قط. وكانت تأتي مبتسمة تمسك بيدي الصغيرة في يدها وتقول: بابا، غمض عينيك. وما إن أفعل حتى أجد في فمي قطعة حلوى، وفي قلبي يقينًا بأن الخير يسكن الفطرة قبل أن يسكن التعليم. وفي تلك اللحظات كنت أشعر أنني أنا التلميذ وهي المعلمة، وأن الأبوة ليست سلطة تمارس، بل درس في التواضع أمام نقاء الطفولة.

المحور الثالث: من البراءة إلى الفلسفة

لم تكن تلك اللفتة مجرد سلوك طفولي بريء، بل كانت إعلانًا صغيرًا عن حضور الفلسفة في الحياة اليومية. فلقد كتب الفلاسفة عن الفضيلة والأخلاق، لكن سجى جسدتها بصدقها دون أن تعرف أسماءها. فهي لم تتحدث عن الخير لكنها عاشت معناه، ولم تشرح مفهوم الحب لكنها عبرت عنه دون كلمات. وكنت أراها تمارس الفلسفة ببراءتها، فتجعلني أؤمن أن الفكر لا ينفصل عن الفعل، وأن أجمل الدروس تقال بقطعة حلوى صغيرة تقدم في صمت. ومن هنا فهمت أن الفلسفة ليست تنظيرًا للعالم، بل طريقة في أن نحيا فيه بصفاء وعدل ومحبة.

المحور الرابع: الجمال الذي يسكن البساطة

في تصرف سجى أدركت أن الجمال لا يقاس بالزينة ولا بالألوان، بل بالنية التي تضيء الفعل. وما يجعل الهدية جميلة ليس حجمها ولا ثمنها، بل روح من يقدمها. وكانت سجى تمارس فلسفة الجمال بعفويتها وتعلّمني أن الجمال الأخلاقي هو أسمى أنواع الجمال لأنه يخرج من قلب محب لا من رغبة في المديح. ولقد ربطت بين الحب والفكر، بين القلب والعقل، بين الفعل والمعنى، بطريقة لم يدركها كثير من الكبار. ومنها تعلمت أن الجمال لا يسكن الأشياء، بل يسكن الطريقة التي نحب بها الآخرين.

المحور الخامس: البيت.. أول مدرسة فلسفية

لقد علّمتني ابنتي أن الفيلسوف لا يولد في الجامعة، بل في البيت، حيث تبدأ الأسئلة الأولى وتولد الدهشة الأولى. وأن كل لحظة نعيشها مع أطفالنا يمكن أن تكون درسًا في الفلسفة لمن يتأمل بعين القلب لا بعين الفكر وحدها. وكانت سجى تمارس فلسفة الأخلاق ببراءتها، وفلسفة الجمال بعفويتها، وفلسفة الوجود بحضورها الدافئ. وهي لم تتحدث عن معنى الحياة لكنها جعلتني أعيشه معها. ومنها أدركت أن التربية الفلسفية الحقيقية لا تبدأ بتلقين القواعد بل بإشعال الوعي في القلب. وإن الطفل الذي يحب بصدق هو أول الفلاسفة لأنه يرى العالم كما هو بلا تزييف ولا أقنعة.

أوصي من خلال تجربتي مع ابنتي سجى، أولًا: للأطفال أقول لهم يا صغاري، إن قطعة الحلوى التي تقدمونها اليوم قد تزرع في قلوب من تحبونهم درسًا لا يُنسى. وإن العطاء لا يقاس بحجمه، بل بروحه، والمحبة الصادقة لا تنتظر مقابلًا، وإنكم حين تشاركون غيركم ما تحبون فأنتم تمارسون الفلسفة دون أن تعلموا، لأن الفلسفة هي أن تكونوا بشرًا بقلوب مفتوحة على الحب.

أما توصيتي للكبار فتكمن في أنني تعلمت من ابنتي أن الأطفال لا يحتاجون إلى دروس في الفلسفة، بل إلى من يصغي إلى حكمتهم الصامتة. وعليكم بمراقبة تصرفاتهم ففيها من المعنى ما يعجز عنه كثير من الكتب. ودعوا أطفالكم يعيشون براءتهم بحرية، ففيها الفطرة الأولى التي تنبع منها الفلسفة: حب الخير، والتساؤل، والمشاركة. فحين يعطي الطفل بلا مقابل، يذكّرنا أن الفلسفة تبدأ من القلب قبل أن تصل إلى العقل، وأن الأبوة ليست تعليمًا للآخر، بل تعلم من الآخر.

الخاتمة: قطعة الحلوى التي صارت درسًا في الوعي

وهكذا فهمت أن الفلسفة لا تسكن القاعات الجامعية ولا تحفظ في الكتب، بل تسكن قلب طفلة تقسم قطعة الحلوى على اثنين وتحتفظ بنصيب لوالدها. وإنه في فعل صغير كهذا تختبئ أسئلة الوجود الكبرى: ما الخير؟ ما الجمال؟ ما الحب؟ ولقد أجابت ابنتي سجى عنها جميعًا بالفعل لا بالقول، حين جعلت من المشاركة طريقًا للسعادة، ومن الحب معنى للمعرفة. وأن الفلسفة في جوهرها هي أن نحيا بوعي وامتنان، وأن نرى في الأشياء الصغيرة ما يذكّرنا بعظمة الإنسان. وإن ابنتي سجى لم تشرح لي ذلك بل جعلتني أعيشه. ولهذا أقول بثقة وامتنان عميق إن قطعة الحلوى التي وضعتها سجى في فمي كانت أحلى دروس الفلسفة التي ذقتها في حياتي.

***

أ. د. علي محمد عليان عبد الرازق الخطيب

أستاذ ورئيس مجلس قسم الفلسفة- كلية الآداب- جامعة المنيا- مصر

 

في المثقف اليوم