قضايا
سامح مرقس: تاريخ التطور الفكري والديني في الشرق الأدنى
كانت مسألة خلق العالم ومصير الإنسان بعد الموت من بين أولى الأسئلة التي خطرت في ذهن الإنسان، وقد تم التعبير عن مفاهيمه في عصور ما قبل التاريخ من خلال رسومات كهفية جذابة.
بدأ تطور المعرفة في الشرق الأدنى مع ظهور حضارة وادي النيل وحضارة بلاد ما بين النهرين.
رفض المصريون القدماء قبول الموت كنهاية لوجودهم، مما دفعهم إلى التفكير والتأمل بعمق في معنى الوجود، وكيف تم خلق الكون، وكيفية التغلب على الموت والوصول إلى الحياة الأبدية. وقد ادي ذلك الي الاعتقاد بان الحياة على الأرض مجرد جزء من رحلة أبدية تستمر بعد الموت وفقا لدينونه صارمه تقيم حياه الانسان قبل موته.
ظهرت الحضارة السومرية في جنوب بلاد ما بين النهرين، وابتكر السومريون نظام دولة المدينة حيث كان لكل مدينة استقلال ذاتي وإله خاص. كان السومريون يعتقدون أن العالم تحت مراقبة الآلهة، وأن المرض سببه الغضب الإلهي.
يرتبط تاريخ اليهوديه بتاريخ كنعان وهي منطقة تشمل فلسطين وسوريا وغرب نهر الأردن. ظهرت مملكة إسرائيل في الشمال منذ القرن الثالث عشر قبل الميلاد، ومملكة يهوذا في الجنوب خلال القرن العاشر قبل الميلاد. تم كتابه أجزاء كبيرة من التوراة بواسطه نخبه من اليهود المنفيين في بابل واختيار يهوه إلها سماويًا لليهود. يصف التوراة وعد الله لـ "إبراهيم" وهروب نسله إلى مصر، ثم خروجهم من مصر بقيادة "موسى" وعند جبل سيناء تلقى "موسى" التوراة (أسفار موسى الخمسة). في النهاية، قادهم الله إلى أرض كنعان التي أصبحت "إسرائيل .“ تقدم الديانه اليهودية مجموعة من الارشادات والتقاليد والطقوس بعضها تأثر بالثقافة المصرية وهناك تقارب كبير بين النصوص المصرية والنصوص العبرية، ومن الامثله كلمة ”مزمور" كلمة مصرية تطلق على الترانيم، ونصائح الحكيم "بتاح حتب" هي أصل سفر المزامير، وحكم "أمينموب" هي أصل سفر الأمثال. وأخذ العبرانيون عن المصريين عمل الخبز بلا خميرة، وختان الذكور . كما يوجد تشابه بين بعض القصص في ”التوراة" والأساطير السومرية مثل قصة "نوح" والطوفان وأسطورة جلجامش السومرية. كذلك هناك تشابه بين قصة "آدم وحواء“ مع اساطير منقوشة باللغة الأوغاريتية في "سوريا" .
كانت الزرادشتية الديانة الرسمية لبلاد الفرس منذ عام 600 قبل الميلاد إلى 650 ميلادي. انتشرت الزرادشتية على يد النبي زرادشت، الذي تلقى وحياً متكرراً من ملاك يخبره عن إله واحد يدعى أهورا مازدا (الرب الحكيم) الذي خلق العالم، وهو مصدر الأفكار والكلمات والأفعال الطيبة، ويجب عبادته، وأن هناك صراعاً مستمراً بين الخير والشر.
تشمل الممارسات الدينيه عند الزرادشتيون الصلاه خمس مرات في اليوم مع تغطية الرأس بقبعة بيضاء من القطن للرجال ووشاح للنساء. كما يمارس الزرادشتيون غسل الوجه والارجل واليدين قبل الصلاه . ينظر الزرادشتيون الي النار على أنها الرمز الأسمى للنقاء، وتمثل نور الله ”أهورا مازدا“. يحاسب روح المتوفى رئيس الملائكة ” والصالحون مصيرهم الجنه، وينجحون بسهوله في عبور الصراط الذي يقع فوق جهنم أمَّا الأشرار سيفشلون في عبور الصراط ويهوون في النار. بعد نهاية الزمان، سوف يجتمع الجميع اهل الجنه وجهنم وسوف يعيشون في سلام ووئام إلى الأبد مع أهورا مزدا، الذي برفض العذاب الابدي .
هناك تشابه بين الزرادشتية والعديد من المعتقدات والممارسات الدينيه في الشرق الادني، وقد دخلت بعض المعتقدات والممارسات الزرادشتية إلى المجتمع الإسلامي، فهناك تشابه في وصف الاله وفي ممارسه الصلاه خمس مرات في اليوم، وفي ممارسه الوضوء قبل الصلاة. كما ويوجد تشابه بين قصه الاسراء والمعراج في الاسلام مع أساطير زرادشتيه.
كانت الفترة الهلنستية (323 قبل الميلاد إلى 30 قبل الميلاد) المرحلة الأخيرة في تطور الفكر الديني في الشرق الأدنى قبل ظهور المسيحية. أدت حملات الإسكندر الأكبر إلى تواصل ثقافي كبير بين الشرق والغرب، وإلى إنشاء إمبراطورية عالمية اندمجت فيها الثقافات والحضارات والأديان الشرقية والغربية. وقد أسفر هذا الاندماج عن ظهور ثلاثة تيارات دينية: الهرمسية، والغنوصية، والمساريه. لعبت الغنوصية دورًا هامًا في الإيمان بإله واحد يضع المعرفة الباطنية في القلب النقي ليدرك الإنسان وجود الإله السماوي، وأن طريق الخلاص يمر عبر الوسيط السماوي، "المخلص"، الذي تصعد الروح معه إلى السماء لتتحد مع الله إلى الأبد. أثر التوحيد الغنوصي على اليهودية ليصبح "يهوه" الإله الواحد العظيم، وجعلوا السماء مقرًا أبديًا له.
في الختام، فإن التشابه في المفاهيم الدينية عبر حضارات الشرق الأدنى يعكس حقيقة أن التجربة الإنسانية هي سلسلة متشابكه من الافكار. للاسف انكر ارسطو وجماعته التواصل الفكري القوي بين الحضاره المصرية القديمة والحضاره الإغريقية، علي الرغم من ان عشرات من الفلاسفة الإغريق تلقوا تعليمهم في "جامعة أون" المصرية واستفادوا من مكتبة الإسكندرية التي كانت منارة للمعرفه في العالم القديم. اخطأ ايضا منظري "العصر المحوري“ في حصر الحضارات البشريه الهامه في فتره محدده تمتد من القرن الثامن إلى القرن الثالث قبل الميلاد. ها الاختيار العشوائي يتجاهل التسلسل الحقيقي للفكر الإنساني ودور اهم حضارتين في تاريخ البشريه: الحضاره السومريه والحضاره المصريه القديمة.
لقد حلت النظريات العلمية محل الأساطير والتأملات المجردة،منذ اكتشاف كوبرنيكوس في عام 1514، أن الأرض ليست مركز الكون، وأصبح الإنسان قادرًا على القياس والتنبؤ معتمدًا على علوم الفيزياء، والمعادلات الرياضية .
للاسف، انتشرت الحركات الدينية الأصولية في جميع أنحاء الشرق الأدنى خلال العقود الأخيرة، مما أعاق تقدم المعرفة، ويجب علينا مواجهة هذه الظاهرة المؤسفة وهزيمتها بالمعرفة العلمية الحديثة.
***
بقلم استاذ دكتور سامح مرقس






