قضايا
مجتبى الحلو: مشروع تجديد الفكر الديني لعبد الجبار الرفاعي
يمكن اعتبار الدكتور عبد الجبار الرفاعي من أهم المفكرين العرب المعاصرين الذين عملوا بشكل حقيقي على مشروع تجديد الفكر الديني. عمل الكثير من المفكرين على هذا المشروع، إلا أنهم خاطبوا الدين ودرسوه من خارج الدائرة الدينية. ما يميز الرفاعي أنه انطلق من داخل دائرة الدين للعمل على هذا المشروع الإصلاحي. لم يكن هدف الرفاعي أن يدافع عن التراث كصندوق سري ومقدس لا يمكن المساس به، ولم يكن في نفس الوقت من المنتقدين المتطرفين لهذا التراث كالذين رفضوا الصندوق وما فيه. كان هدفه الأساس هو إبراز التفسير الخاطئ والفهم غير المناسب لهذا التراث، فهو يتعامل مع مفهوم الإيمان كتجربة بشرية ذات بعد معنوي وأخلاقي وتجريبي، حيث اعتبر الإيمان هو العلاج للقلق المتزايد والمخاوف المتفاقمة عند الإنسان في العصر الحديث.
من أهم ما طرحه الرفاعي هو مفهوم "اللاهوت الجديد" أو "علم الكلام الجديد". هناك هاجس متزايد عند الرفاعي وزملائه المفكرين في العالم الإسلامي بأن علم الكلام بحاجة إلى تجديد حقيقي ليستطيع أن يواجه الظروف المتغيرة الحديثة، وهذا ما دفعه إلى تبني مفهوم علم الكلام الجديد، فقد دعا في كتابه "الدين والظمأ الأنطولوجي" بأن فهم الدين يجب أن يتجدد بتجدد احتياجات البشر الروحية. يتعامل الرفاعي في هذا الكتاب مع الدين على أنه مسألة ايمان قلبي، فلا يمكن للدين أن ينجو عبر القوة والفرض، كما نراه عبر التاريخ في مختلف الحكومات الإسلامية التي فرضت الإسلام بقوة السيف على الشعوب المحتلة. فالدين يجد طريقه إلى قلوب الناس عبر عطشهم إلى المعنى في هذا العالم المشتت. في كتابه "الدين والكرامة الإنسانية" يعتقد الرفاعي بأن الدين يجب أن يبدأ من الإنسان ومع الإنسان وإلى الإنسان. بمعنى أن الدين لا يسعى إلى أن يضحي بالإنسان من أجل الدين، وإنما يسعى إلى تطوير الإنسان ورفع حاجاته المعنوية في هذه الحياة. من النظريات التي تميز بها الرفاعي هو تمييزه بين مفهومي "الدين" و"التدين". بالنسبة له، فالدين هو موضوع وحي وغيب وربّاني، أي يقع خارج حدود التاريخ، بينما التدين فهو أمر تاريخي وثقافي ونفسي، أي أن التدين من نتاجات الإنسان حيث يقبل النقد والمساءلة. يستمر الرفاعي في هذا النهج ليطرح مجموعة من التساؤلات والانتقادات للتدين الذي يُبتنى على العنف والأيديولوجية السياسية والهيمنة الدينية.
على الرغم من انتقاده للتدين التاريخي البشري، إلا أنه يصر على تبيان مكانة الدين كنتاج إلهي وسماوي وخارج تلاعب البشر والتاريخ. يشارك الرفاعي مجموعة من الأفكار مع فلاسفة آخرين، فهو يتشاطر الرأي مع نصر حامد أبو زيد في تاريخية التفسير، حيث يعتقد بأن فهم النص يختلف مع اختلاف الثقافة والجغرافية والزمان، بمعنى أنه من الممكن أن يتغير فهم الدين باختلاف السياقات المختلفة، ولعل هذا يبرر وجود الإجتهاد الفقهي في المدرسة الإمامية، بل يجعله ضروريا. يغوص أبو زيد في التفسير اللغوي والهرمنيوطيقي والأدبي للنص القرآني ليقدم بذلك مجموعة من القراءات الجديدة للنصوص القرآنية، إلا أن الرفاعي اختار بأن يقرأ القرآن من منظور وجودي وأخلاقي وإيماني دون الخوض في المفاهيم اللغوية الجامدة.
على الرغم من وجود اتفاق ضمني بين رؤية محمد أركون وعبد الجبار الرفاعي في نقد التدين التاريخي، إلا أن أركون يستخدم سكينا حادا للغوص في جسد الدين التاريخي المتغير بتغير الحكومات والسلطات. إلا أن الرفاعي اختار البحث عن التجديد في داخل دائرة الإيمان والإجابة عن الأسئلة المتجددة في العصر الحديث. يؤكد الرفاعي على الحفاظ على روح الدين والإيمان، إلا أنه يرى من الضروري أن نعيد ترتيب الأولويات في الخطاب الديني. لا يخلو تراث الرفاعي من مواقف تدعو القارئ المتابع إلى النقد. لعل تراث الرفاعي يفتقد إلى عنصر أساسي في مشروعه التجديدي، فهو لا يحمل السكين الذي كان يحمله محمد اركون، فهو كان حريصا على أن يمشي في هذا البيت بهدوء دون المساس بمشاعر سكانه. حاول الإصلاح بهدوء من دون ضجيج، على عكس ما فعله اركون. كان بإمكانه أن يكون أكثر صراحة وأكثر تشخيصا لمواطن الخلل، ولكن قد أعزو هذا الأسلوب إلى ما هو عليه، فقد عرفته شخصا ذو كياسة وهدوء واطمئنان، ليس محبا لحلبات الصراع والضجيج. في النهاية، أرى أنه من الجميل أننا عاصرنا مفكرا مثل الرفاعي.
***
د. مجتبى الحلو - باحث وأستاذ جامعي عراقي






