قضايا
فؤاد الجشي: كيف تُعيد الصدفة تشكيل الحياة
بمعزل عن المرجعيات النصية وتعدد قراءاتها، يمكن النظر إلى الوعي البشري بوصفه صيرورة زمنية لا تستقر، فهو ليس بنية مكتملة ولا معطى جاهزًا، بل حركة دائمة تتشكل عبر التجربة، والاحتكاك بالعالم، وإعادة تأويل ما نظنه يقينًا. الوعي لا يعيش خارج الزمن، بل يُصاغ داخله، وما يبدو ثابتًا في لحظة ما سرعان ما يتحول، في لحظة لاحقة، إلى سؤال مفتوح أو افتراض قابل للمراجعة. فاليوم ليس هو الغد، والغد لا يعود إلى اليوم، لأن الزمن نفسه يعيد تشكيل المعنى باستمرار.
في هذا الأفق المتحوّل، تبرز الصدفة بوصفها عنصرًا مركزيًا في تشكيل المصائر الإنسانية. غير أن الصدفة هنا لا تُفهم باعتبارها عبثًا محضًا، بل بوصفها تقاطعًا غير متوقع لسلاسل سببية متعددة، تتلاقى في لحظة واحدة لتُنتج حدثًا لا يمكن التنبؤ به. الإنسان يعيش داخل هذه الشبكة الكونية المعقدة دون أن يمتلك السيطرة الكاملة عليها، ومع ذلك يُطالَب دائمًا بتحمل نتائجها. هذا التوتر بين محدودية السيطرة وعبء المسؤولية يشكّل أحد أعمق أزمات الوجود الإنساني.
في الحياة اليومية، تتجلى هذه الإشكالية بوضوح في الحوادث المفاجئة. إنسان يخرج من بيته في لحظة عادية، ليصطدم بمصير لم يكن في الحسبان. قد يكون السبب إهمالًا بشريًا، أو شرودًا عابرًا، أو ظرفًا خارج نطاق التخطيط. غير أن الحدث، مهما بدا عابرًا، لا يتوقف عند لحظة وقوعه؛ بل يطلق سلسلة طويلة من الآثار النفسية والاجتماعية والاقتصادية. عائلة تتغير بنيتها، أطفال يُعاد تشكيل وعيهم على الفقد، ومستقبل يُعاد رسمه تحت وطأة الغياب. الحدث الفردي يتحول إلى تاريخ صغير، وقد يمتد أثره عبر أجيال، لا بالفعل المباشر، بل بما يخلّفه من ذاكرة ومعنى وجرح صامت.
هنا يطفو السؤال الفلسفي الحاسم: من المسؤول؟ هل هو الإنسان بوصفه فاعلًا أخلاقيًا؟ أم بنية الحياة التي تسمح بهذه التقاطعات القاسية؟ أم أن الكون ذاته يعمل وفق نظام لا يضع الإنسان في مركزه؟ لعل المسؤولية، في هذا السياق، ليست حكرًا على طرف واحد، بل موزعة بين الفعل البشري وحدود العقل وطبيعة الوجود. فالإنسان فاعل، لكنه ليس مطلق الحرية، ومخيّر في بعض أفعاله، ومقيد بسياقات لا يختارها في كثير من الأحيان.
ومع ذلك، فإن الحياة لا تتوقف عند حدود الألم. فمن رحم الصدمات تولد الأسئلة، ومن الأسئلة تتشكل المعرفة. الحوادث تُنتج قوانين، والفقد يولّد وعيًا جديدًا بقيمة السلامة والتنظيم، والرغبة في تقليل الخسائر. كأن التجربة الإنسانية لا تتقدم إلا عبر الانكسار، ولا تعيد بناء ذاتها إلا بعد مواجهة حدودها.
ورغم تراكم هذه المعارف، يبقى الشك حاضرًا: هل ما ننتجه من معرفة هو اقتراب فعلي من الحقيقة، أم مجرد سرديات مؤقتة تمنحنا القدرة على الاستمرار؟ ربما لا تكمن الإشكالية في غياب الحقيقة، بل في اعتقادنا بإمكانية امتلاكها كاملة. فالحياة، في جوهرها، ليست إجابة نهائية، بل سؤال متجدد، وما الإنسان إلا كائن يسير داخل هذا السؤال، محاولًا أن يمنحه معنى، ولو كان مؤقتًا.
***
فؤاد الجشي






