قضايا

مصطفى غلمان: هَلْ يَحْرُسُ الشِّعْرُ العَرَبِيُّ قَلَقَ العَالَمِ؟

في الاحتفاء باليوم العالمي للغة العربية (18 دجنبر)

لا يبرح الشعر موقعه الأول في قافلة الوجع الإنساني، قائدا خفيا لأسئلته الكبرى، وحارسا لقلقه الأزلي. وحين تكون اللغة العربية هي مركبه وموئله، يتجاوز الشعر حدّ القول إلى مقام الكينونة. يغدو قبضةً على الوجود، وسباحةً في أعالي المعنى، حيث تتعرّى الأشياء من عارضها وتستعيد أسماءها الأولى. من دونه، يبهت الأثر الثقافي، وتذوي الهوية في فراغ بلا صيرورة ولا عائد.

فالشعر، بوصفه اللسان العربي المبين في تجلّيه الأقصى، هو الفالق الواعي لطاقات التحوّل، والضامن لسرّ الصمود والاستمرار والتوهّج. وفيه تتدفّق اللغة لا كأداة عابرة، بل كدم نابض، يتآلف مع قضاياها السوسيولوجية واللسانية، من غير قطائع قسرية ولا ارتهانات عمياء، إذ يمضي المعنى في انفتاحه الحر، متجاوزا كل سياج.

غير أنّ هذا الحضور لا يعبر الزمن بلا امتحان. ففي خضمّ التسارع الهائل لعلوم الإعلام والصورة، وتحوّلات وسائط التواصل الاجتماعي والثقافي، يتسرّب شكّ خفيف، سرعان ما يستفحل، مهدّداً ميسم الشعر الراهن، ومكانته في لملمة اللحمة العربية، وحفظ مساقاتها التاريخية والمعرفية من التبدّد.

ومن قلب هذا العبور الخاطف، المكدّس بالانخطافات، تنهض مبادرات بنوايا عالية، يطلقها الغيورون على اللغة والشعر معا، ساعيةً إلى تبديد تلك المساحة الرمادية من الشك، وإلى ترميم ما تصدّع، وتحصين ما اعتراه الوهن، ورسم خرائط نجاة تمكّن رعاة العربية وشعرها من تحويل الضباب إلى يقين، والرؤية إلى بداهة لا فكاك منها.

وها نحن اليوم، نشارك في هذه الخطفة الرجيمة، لا بوصفنا شهودا فحسب، بل شركاء في الفعل، نبتغي أن نفرح قلوب الشعراء بلغتهم، وأن ننشدها على اتساع الأفق، قريبةً من حساسيات الجديد في الزمن والإنسان والمستقبل، كي يظل الشعر جسرا بين ما كنّا وما نصير، ونبضاً لا يخفت في جسد العربية.

وإذا كان الفرحُ هو ما يعنينا، من جهة الشعر، فإن النظر بعين القلب يظلّ أقصر المسالك إلى الحبّ الإنساني، وأصدقها وصولا. غير أن اللغة التي تعبر هذا الأفق مطالبة بأن تسلك الدرب الوعر ذاته، بلا ازدحامٍ بلاغي ولا تبريرٍ زائد، إذ إن الشعر، حين يُرى بالشعر، لا يبيح رهن أبواب المعنى كلّها، ولا يقبل أن تُقفل أصالته وعراقته وامتداده التاريخي في قفص الماضي. فهو لا يستدين راهنه من زمنٍ مضى، بقدر ما يستريح على أفق التطوير، ويأنس للتحديث، ويمضي في امتدادٍ سلس لا ينقطع.

ولعلّ في هذا الأفق الرحب، الممتدّ بين لغتنا الضادّية ولغات العالم الأخرى، ما يؤسّس لتجارب مسلكية تداولية أكثر اقترابا من نبض الكونية، لا بوصفها تعميما أجوف، بل باعتبارها استعادةً لجوهر الوجود وأخلاق العالم. فالشعر، بهذا المعنى، يوازي عطاياه بنفس الروح التي تنشغل بها علوم القلب، تلك التي تتحسّس طريقها نحو روحٍ مغيّبة في عالمٍ ماديٍّ متصنّع، أصمّ في بؤر الحروب، وأعمى في ميادين القتال المبرَّر بفظاعة.

إننا، إذ نمتثل لأحلام روحنا العربية، إنما نراهن على أن تتجسّد مواثيق اتصالها بالعوالم الأخرى، عبر تمكين لغتنا الشعرية من القبض على الهارب، لا افتراسا بل مصالحة، لا هيمنةً بل سلاما، تحقيقاً للمسالمة، وترسيخا للمصالحة، وإنضاجا لقيم التسامح.

وقد ظلّ الشعر العربي، في امتداده الصيروري المتراكم، مؤسِّسا لنظامه الذاتي والمعرفي، محرضا على الجمال، متورعا في زوايا الروح الكاملة، مشهرا سيف عشقه لا ليجرح، بل ليعلن اكتمال القمر، وارتفاع شمسه المنيفة، في ليل العالم الطويل.

فكيف يحرس الشعر العربي قلقَ العالم؟ وأيّ سرٍّ هذا الذي يجعله، إلى اليوم، قادرا على ملامسة الجرح الكوني من داخل لغته الخاصة؟ وهل ثمّة ما يُغذّي حماسة شعريّتنا العربية ويُرسّخ أثرها في التاريخ الإنساني، لا بوصفها ذاكرةً منقضية، بل باعتبارها طاقةً فاعلة في تشكيل الوعي الحضري للآخرين والتأثير في مخيالهم؟

وهل يستجيب تحوّل العالم إلى صناعةٍ ترجمية، تُعيد وصل الثقافات وتداخل المنظومات القيمية المتعدّدة، لأنماطنا الثقافية واللغوية التي تأسّست في غابر الأزمنة؟ أم أن تلك الأنماط مطالَبة اليوم بأن تعيد ابتكار نفسها، لا لتنجو فحسب، بل لتشارك في صياغة معنى العيش المشترك في عالمٍ يتغيّر على نحوٍ فائق السرعة؟

ثم، هل نملك الآن الشجاعة الجمالية والمعرفية لاختراع طرقٍ جديدة لمعاودة التأسيس، وردّ الروح إلى ما تاه منها، وإعادة وصل الشعر بمصادر دهشته الأولى، من دون الارتهان لنوستالجيا الماضي أو الذوبان في استنساخ الآخر؟

إنها أسئلة تتكثّف في وجدان الراهن الثقافي العربي، الذي لا يزال يتلمّس خطاه في طريق وعِر نحو الوجود المتعدّد للعالم الجديد. وجودٍ لا يقوم على الإلغاء، بل على الحوار، ولا على الانغلاق، بل على الانفتاح الخلّاق.

وبين هذه الرهانات الكبرى، وما يعتري الثقافة الشعرية من تحوّلات، في صراعاتها المتلاحقة مع أنماط جديدة تميل إلى التقليد، واهتزاز المعنى، وتدافع قيم الكتابة، وتراجع المقروئية، يطفو إلى السطح قلقٌ عميق: خوفُ استشكال الشعر ذاته، لا كنصّ فحسب، بل كنظام رمزي عربي مؤسِّس للهوية والوجدان، وحاملٍ لذاكرة جماعية مهدّدة بأن تفقد صوتها إن لم يُعاد الإصغاء إليها من جديد.

***

د. مصـطـفــى غَـــلمـان

في المثقف اليوم