قضايا

ابتهال عبد الوهاب: ازمه الاغتراب.. حين لا يشبهنا المكان ولا يسعنا الزمان

الاغتراب ليس عرضا طارئا في حياة الانسان الواعي، بل هو جرح وجودي عميق، يتفتح كلما اشتد الوعي واتسعت المسافة بين ما نحن عليه وما يراد لنا ان نكونه. انه ذلك الشعور الخفي بانك حاضر بجسدك، غائب بروحك؛ تمشي بين الناس لكنك لا تسكن معهم، تسمع لغتهم ولا تعثر فيها على صوتك، تشاركهم المكان وتفقد المعنى.

الاغتراب ان تجبر على التعايش في عالم لا يشبهك، ان تنفجر داخليا بافكار تعد فائضة عن الحاجة في نظر الاخرين، ان تتكلم فلا يسمع صوتك، او يسمع دون ان يفهم. هو ان تتحول ذاتك الى هامش، وحقيقتك الى عبء، فتعلم الصمت لا بوصفه حكمة، بل بوصفه ملجأ. هناك، في الزوايا المنسية من الحضور الاجتماعي، يولد الاغتراب بوصفه انسحابا انيقا من عالم لا يعترف بالاختلاف.

وفي لحظة صفاء موجعة، تهمس الذات لنفسها: انا لا انتمي الى هنا. ليس لان المكان طارد بالضرورة، بل لان الروح اوسع من الجدران، والفكرة اسبق من الزمن، والوعي غالبا يولد يتيما في مجتمعات تميل الى التماثل وتخشى الفرادة. وهنا يتداعى السؤال الفلسفي الجوهري:

هل الانتماء هو الذوبان في الجماعة؟ ام ان قوته الحقيقية تكمن في الحفاظ على الخصوصية دون ان تتحول الى عزلة قاتلة؟

اعمق اشكال الاغتراب ليس اغترابنا عن العالم، بل اغترابنا عن انفسنا. حين نتصرف بطرق لا نفهمها، حين نخاف مما نحن عليه، حين نرتدي وجوها ليست لنا، ونتكلم بلغات لا تعبر عن نبضنا. هناك يصبح الانسان غريبا حتى بين اقرب الناس اليه، ويحل الفراغ محل الامتلاء، والخواء محل المعنى، ويبدو العالم كانه مسرح بلا حقيقة.

وقد يولد الانسان في المكان الخطا، لكن مأساته الكبرى ان يولد في الزمن الخطا؛ ان يكون عقله سابقا لعصره، يرى ما لا يرى، ويحلم بما لم يخلق بعد. يقضي حياته يصف للاخرين عالما لا يستطيعون تخيله، بينما يعجز هو عن اغماض عينيه عن دهشته به. هنا يصبح الاغتراب قدر الوعي، وضريبة البصيرة.

في هذا المعنى، يتحول الاغتراب الى ازدواج قاس: ذات اجتماعية مفروضة، وذات داخلية تتاكل صمتا. يعيش الفرد ممزقا بين ما يحلم به وما يستطيع تحقيقه، بين ما يريد ان يكونه وما يسمح له ان يكونه. وحتى على مستوى الجماعات، تعيش مجتمعاتنا العربية اغترابا مركبا: بين ماض يرفض الرحيل، وحاضر يابى الحضور، فتتآكل الهوية في فجوة الزمن.

لقد تنبه الفلاسفة مبكرا الى هذه الماساة. رآها هيغل اغترابا للروح عن ذاتها، ورآها ماركس اغترابا للانسان عن عمله وعالمه، وقرأها اريك فروم بوصفها اغترابا نفسيا في حضارة تستهلك الانسان بدل ان تنقذه. اما الوجوديون، فقد جعلوا منها قدر الانسان الحديث في عالم فقد يقيناته. كافكا كتبها من جسده المريض، ونيتشه صرخ بها من صداعه الوجودي، وماركس حفرها في جلده وروحه. وحتى فان غوخ، لم ير جمال العالم الا حين انكسرت روحه الى اقصى حد.

يقول كامو ان الانسان لا يجد معنى لحياته الا في تمرده على العبث، ويصف لوكاش الاغتراب بانه احساس الانسان بان عالمه الذي صنعه بيديه لم يعد وطنه، بل سجنه. ويعلن نيتشه، مع موت الاله، انهيار القيم القديمة، تاركا الانسان وحيدا في مواجهة فراغ المعنى، عقلا متفوقا في عالم لا يطيق تفوقه.

لهذا، قد يكون الاغتراب مرحلة ضرورية للصحة العقلية في مجتمع مختل؛ عزلة مؤقتة تنقذ الذات من الذوبان، ومسافة تامل تحمي الانسان من المسخ. فالاغتراب، رغم قسوته، قد يكون بابا للبحث، ودافعا لاختراع زمن اخر، وفضاء ارحب من سجن الحاضر الخانق.

نحن، في جوهرنا، كائنات منفية. نحيا ونحن نعرف اننا سنموت، والموت اقسى اشكال الغربة. ناتي الى العالم غرباء، ونغادره غرباء، وبين الدخول والخروج نحلم بالعودة الى معنى لم نعرفه يوما. ولهذا، فان اشد ما يؤلم في الاغتراب ان تكون متصلا بواقع لا تستطيع تغييره، ولا تستطيع مغادرته.

ان اشد اشكال الاغتراب قسوة هو ذلك الذي يجعلنا نعيش حياة لا تشبهنا، ونؤدي ادوارا لا تعبر عنا، فنفقد انفسنا ونحن نحاول التكيف. وحين يصبح التكيف خيانة صامتة للذات، يتحول الاغتراب من وجع الى موقف، ومن عزلة الى شكل من اشكال المقاومة الداخلية.

لسنا مطالبين بالذوبان كي ننتمي، ولا بالانسحاب كي نحيا. انما نحن مطالبون بان نحفظ جذوة المعنى داخلنا، وان نصون اختلافنا بوصفه قيمة لا لعنة. فالعالم لا يتغير بالصخب وحده، بل بالوعي الذي يرفض ان يتحول الى نسخة مكررة.

قد لا نختار زمننا، ولا مجتمعنا، لكننا نختار الا نفقد ذواتنا داخلهما. نختار ان نكون غرباء بكرامة، لا مندمجين بلا روح. فالاغتراب، حين يعاش بوعي، لا يصبح نهاية الطريق، بل بدايته؛ طريق العودة الى الذات، الى الحرية، والى انسان لم يتصالح بعد مع الزيف، ولن يفعل.

فكيف نواجه تيهنا وهشاشتنا؟

ربما لا يكون الحل في الرحيل المكاني، بل في الرحيل الوجودي. ان نغادر كل ما يرهق الروح، ان نهجر ضيق العقول، وضجيج الكلمات المستهلكة، والسير خلف القطيع بلا تفكير. ان نرحل دائما الى حيث نجد ذواتنا، ولو كان ذلك في اعماقنا

هناك فقط، يتحول الاغتراب من لعنة الى وعي، ومن عزلة الى حرية صامتة، ومن جرح الى افق.

ذلك وحده خلاصنا الممكن في عالم يصر على ان يجعل من الانسان مسخا بلا ملامح.

***

ابتهال عبد الوهاب

 

في المثقف اليوم