قضايا
أنور ساطع أصفري: الوعي الثقافي.. الواقع - التحديات
إنّ الوعي الثقافي العربي ليس حديث العهد، بل إنّه يمتد إلى نظريات ودراسات الغزالي والفارابي وابن رشد وابن عربي وابن سينا، وغيرهم كثير ممّن عملوا في مجال المعرفة والوعي والثقافة، وخاصّة مناهجهم في مجال المسائل الفكرية.
الثقافة العربية غنيّة في مناهجها منذ القدم وعلى مستويات مختلفة، إن كان على مستوى الأدب والعلوم والصرف والنحو والبيان والبلاغة والنقد، إضافة إلى الفلسفة والمنطق وعلوم الفيزياء والرياضيات والكيمياء والطب، وعلوم الفلك والموسيقى والإيقاع، وعلوم الفقه.
وبسبب الأزمات الداخلية وغزوات الإحتلال الخارجية تعرّض الوعي الثقافي العربي لنكبات متعددة.
تماماً كما حدث في بغداد عام 1258 إثر سقوطها على يد المغول، حيث تم إتلاف وضياع الناتج الثقافي، ومن ثُمّ الحروب الصليبية المتكررة، والتي أدّت إلى تدمير الأمّة وتفكيكها، ومن ثُمّ جاء دور الأتراك العثمانيين الذين عزلوا الأمّة العربية لفترةٍ زمنية طويلة قاربت أربعة قرون، وأجهضوا اللغة العربية، وجعلوا اللغة التركية هي الرسمية في البلاد، كما صادروا كل المهرة، وكلّ ما يُلامس الإبداع، وتمّ نقلهم إلى " الآستانة " العاصمة في ذلك الوقت، فتخلّفت اللغة العربية من كلّ جوانبها فكرياً واجتماعياً وفنّياً، فعمّ الاهتمام بكلِ شيءٍ سطحي، الذي أبقى الأمور على حالها بعيداً عن أي تقدمٍ أو تطور.
إلى أن جاء دور الإستعمار الغربي، وقسّم العالم العربي، وجاءت سايكس بيكو، وزرع الجسد الصهيوني على الأرض الفلسطينية المغتصبة، وزرع جذور تبعية المنطقة ووعيها وثقافتها وفكرها للغرب، والتي لا زلنا نعاني منها منذ ذلك الوقت.
ولعل من أقسى النكبات الداخلية التي عانى منها الوعي الثقافي العربي ولا يزال، هي الفتنة الكبرى بحق " علي وعائلته وسلالته " ونشوء الفرق الإسلامية مع بداية العهد الأموي، وأزمات أخرى في العهد العباسي أبرزها الزندقة التي انتشرت أكثر في عهد ثاني الخلفاء العباسيين " المهدي "، وتمت إعاقة أي مسيرة نحو الأمام بالوعي الثقافي العربي، واتهام المجددين بتهمٍ ساقطة، وانتشرت حركات التكفير وإلى يومنا هذا، وهي تحمل في أبعادها إثارة الحروب والفتن، والقتل المجاني إنتصاراً لعقيدةٍ أحادية دخيلةٍ ومشوّهة، مثل حركة داعش وتنظيمات إرهابية تكفيرية أخرى.
ومن أخطر المؤثّرات السلبية تراجع الوعي الثقافي وغياب العلمية والتقنية والمنهجية، وتراجع المستوى العام للعلم والتربية، وضحالة الإنتاج الفكري، والسقوط في مستنقع ثقافة القشور، وهيمنة الظاهر على الجوهر، وبالتالي غياب الإبداع وإهمال المبادرات الملتزمة والهادفة لمحاولة إستعادة الثقافة العربية أو إعادة بنائها، وهيمنة رأس المال على كل شيء، حتّى على الإبداع الفكري والثقافي والعلمي.
طبعاً لا ننكر بأن القرن الماضي شهد حركات التحرر من الاستعمار ومن ثُمّ كانت هناك جهود مؤكّدة لإعادة بناء الوعي الثقافي العربي من جديد، كما شهدت بعض العواصم العربية إزدهاراً في مجال النشاط الفكري والثقافي ممّا كان له أثراً كبيراً في إيقاظ وتطوير الفكر الثقافي في البلدان العربية الأخرى.
ولكن سرعان ما جاءت نكسة 1967 ليشهد الميدان العربي إحباطاً لا نظير له، في مجال الفكر القومي، والوعي الثقافي.
في بدايات القرن الحالي شهدت المنطقة تراجعاً واضحاً لكل ما يمسّ التحالف العربي والمشاريع القومية، حتّى المشاريع الوطنية فيما يخص كل دولةٍ، وانتشرت أكثر التنظيمات المسلحة الإرهابية التكفيرية المتطرفة في أكثر من مكان، وأصبحت هي سيدة الموقف.
وحصل خلل فاضح في المجال الفكري والمالي والاقتصادي والتربوي، نتج عنه اضطرابات تعذّر على الجميع التكهن بمدّتها كما نتائجها. وانتشرت سياسة وثقافة المجتمع المستهلك بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى.
كثرت المحاولات للتخلّص من هذا الواقع والتخفيف من آثاره، ومحاولات العودة إلى الماضي من عاداتٍ اجتماعية وتقاليد التي يرى فيها الوعي الثقافي نفسه من خلال الملمح الأساسي الدال عليه وعلى هويته، بعيداً عن إبتكار منظومة جديدة من القيم تتأقلم مع واقع الحياة الحالية.
آخذين بعين الإعتبار أن الوعي الثقافي العربي انتبه الآن لأهمية الدراسات التي تنظر للمستقبل بشكلٍ علمي، ولكن بشكلٍ خجول، ويُحذّر من مخاطر الواقع بالنسبة للمستقبل، ويؤكّد بأن هناك سيناريوهات متوقعة لقضايا الأمّة وواقعها.
لا بُدّ لنا إلاّ أن نؤكّد بأن غنى الثقافة عند العرب لا يكفي بمفرده لضمان الاستمرارية والسمو بالوعي الثقافي، ما لم يرافقه وعلى الدوام وعي متجد وعلى مختلف المستويات، قادراً على حماية الهوية الثقافية والهوية الحضارية للمجتمع العربي وحمايتها من الانهيار والتلاشي والتآكل في ثقافات أخرى لها مصالحها في الإقليم.
الجميع يشهد في بعض الدول العربية مبادرات ثقافية من خلال مهرجانات أدبية أو فنية أو ثقافية، إلاّ أن الوعي الثقافي العربي يُعاني كثيراً من القصور وعدم الإهتمام، لنأخذ القراءة على سبيل المثال وليس الحصر، فإنّنا نلاحظ تراجعاً كبيراً في هذا المجال وخاصّة عند فئة الشباب، كما نلاحظ إقبالاً كبيراً من نفس الشريحة " الشباب " على مواقع التواصل وعلى محتوياتها السطحية والضبابية.
ومن ناحية أخرى نلاحظ أيضاً تراجع المستوى التعليمي والمناهج المدرسية، والتي تفتقد بناء عقلٍ مُبدع، وبناء مستوى ثقافي وتعليمي وتربوي لدى الطلبة.
مع ملاحظة أن الدعم المادي والمعنوي للفاعلين والمؤسسات الثقافية والقائمين عليها، وعلى مختلف مدارسهم إن كانوا فنانين أو مؤسسات أدبية، أو مؤسسات تعليمية، أو جهات إعلامية، وبنفس الوقت غياب دور ومسؤولية الدولة في مراقبة ودعم هذه المؤسسات وهذه الجهات التي هي بالأساس تعمل تحت غطاء الدولة.
لا بُدّ من التنويه بأن العديد من المجتمعات العربية يسيطر عليها بشكلٍ أو بآخر خطاب ديني متطرف ومتشدد، وخطاب سياسي قمعي، وهذا من شأنه أن يُحاصر أي وعي ثقافي ويفرغه من محتواه أو مضمونه، ويضعه في قوالب ضيّقة ومشوّهة، وهذا بحد ذاته أن يكسب المجتمع المزيد من الإنغلاق والتطرف ورفض كل ما يُخالف السلطة الدينية أو السلطة السياسية.
من خلال المتابعة نُدرك بأن هناك محاولات للنهوض بالوعي الثقافي في مجتمعاتنا العربية، من قِبل جهات شبه رسمية وحكماء ومفكرين، ولكن كل هذه المحاولات تصطدم بشكلٍ مباشر ومفصلي بعدةِ تحديات تحجب هذه المحاولات التي تهدف إلى تنمية الوعي الثقافي كواقعٍ يُعاني من الانغلاق والتشتت.
وإذا تناولنا أبرز هذه التحديات التي تواجه الوعي الثقافي العربي، نرى أن المؤسسات التعليمية في الإقليم تعتمد بشكلٍ مباشر على خاصيّة التلقين، بعيداً عن التفكير والنقد والحوار، كل الدول المتقدمة تستخدم الأساليب التعليمية المتطورة، التي تسمح للطالب بالوصول إلى المعلومة بشكلٍ مُبسّط ورائع، وتجعل منه مُبدعاً في مجاله.
كما أن غياب الإعلام الهادف عن الساحة العربية، حال كونه رهينة آراء مراكز القرار في الأنظمة العربية، وفق مصالحهم ومكاسبهم وأجنداتهم المعمول بها، وهذا ممّا يُغيّب الوعي الثقافي الجاد عن المجتمع وكل مواطن.
إضافة إلى ثقافة تجّار المواقف وترويج الثقافة الإستهلاكية التي من شأنها نشر وترويج سلوكياتٍ مستوردة بعيداً عن قيم وثوابت المجتمع، كي تسود الثقافة المهترئة والضبابية.
آخذين بعين الإعتبار الفجوة الثقافية المتباينة بين فئة الشباب وكبار السن، حيث ينظر الشباب إلى ثقافة كبار السن بأنها لا تُمثّلهم، وبنفس الوقت ينظر كبار السن إلى ثقافة الشباب بأنها مُريبة، وهذا من شأنه أن يخلق خللاً ثقافياً في أطياف المجتمع الواحد.
إنّ مسألة الوعي الثقافي العربي هي ليست عملية مُستوردة أو مُسبقة الصنع، كما أنها ليست ترفاً، بل هي ضرورة ملحّة بالنسبة للوطن وللإنسان وللأمّة.
لذا لا بُدّ من وضع برامج جادةٍ لإصلاحِ المؤسسات التعليمية وبتر الفساد فيها، لتصبح هذه المؤسسات منارة للثقافة والفنون والتربية والعلوم، ومركزاً جاداً لتنمية كل المواهب والمهارات والإبداع في مجال التفكير الحر والنقد البنّاء.
كما لا بُدّ من بذلِ كلّ الجهود المثمرة بهدفِ تمويلِ كلّ أشكال الفنون والمكتبات والفنون لتأخذ دورها كاملاً، وتشجيع كلّ مجالات الإنتاج الإبداعي لدى الشباب بشكلٍ خاص.
والارتقاء بالمؤسسات الإعلامية والثقافية وبتر تبعيتها العمياء للسلطة، لتكون فعلاً متخصّصة في كل مجالات الوعي الثقافي وتنميته، وتنتج المحتوى الجذّاب الملتزم والهادف الذي يُخاطب كلّ مُكوّنات وأطياف المجتمع.
وبالتالي سينتج عن هكذا مسار ولادة ثقافة الحوار بين كلّ أفراد المجتمع، وكذلك الحوار الخارجي مع الثقافات الأخرى، بهدفِ بناء ركيزةٍ أساسية لبناء ثقافة الحوار والتسامح والتعايش والانفتاح الإيجابي مع الآخر وعلى الآخر.
ومن الضرورة بمكان التوظيف الإيجابي والفعلي للأدوات الرقمية لنشر الثقافة بشكلٍ شاملٍ وواسع ليكون سهل الوصول لكافة أفراد المجتمع، وبشكلٍ خاص فئة الشباب.
إنّ الوعي الثقافي هو بمثابة خط المواجهة الفعلية، وخط الدفاع الأول والأساسي بهدفِ الحفاظ على الهوية الوطنية، وهو البوصلة والضمانة الأساسية والحقيقية لكل خطوةٍ تنموية أو حضارية، فيما إذا كانت الدول العربية أو المجتمعات العربية تتطلّع وبكل طموح للعب دورٍ حقيقي وفاعل في هذا العالم المتغير على الدوام وفق مصالحه ورؤيته.
لذا لا بُدّ من أن نخطو الخطوة الأولى التي تبدأ بعملية بناء الإنسان الواعي ثقافياً، وتحرير العقل العربي، والفكر العربي، الذي يُدرك تاريخه ويتواصل مع حاضره ويطمح لمستقبله الأفضل.
لا بُدّ من مساءلة النفس البشرية، ومراجعة موروثاتها، وتحليل أبعادها، وامتلاك مهارات التفكير السامية، لتتوفّر لدينا المرونة بالتفكير، وتجاوز حالة التطرف والتشدد الفكري التي تحيل دون تطور الإنسان وفكره الإنساني.
التحدّي أمامنا الآن، فيما إذا كُنّا نستطيع تحويل تراثنا إلى قوة فكرية ثقافية تملك القدرة على المنافسة بكلِ مهارةٍ وإبداع، حينها فقط نكون قد ملكنا مفاتيح مستقبلنا المنشود.
***
د. أنور ساطع أصفري






