قضايا
ابتهال عبد الوهاب: من رشدية الطاعة الى رشدية العقل
لا ينجح التنوير حين يظل فكرة نخبوية محاصرة في الكتب والمنصات المغلقة ولا حين يتحول الى شعار ثقافي يردده القليلون بينما تعيش الاغلبية خارج اثره. التنوير فعل اجتماعي شامل لا يكتمل الا حين تنتقل المجتمعات من رشدية تكرس الطاعة الى رشدية تؤسس العقل ومن وعي يستمد اخلاقه من الخوف الى وعي يبنيها على الكرامة الانسانية.
الفرق بين رشدية عبد الله رشدي ورشدية ابن رشد ليس فرقا بين شخصين بل بين منطقين في التفكير ومنهجين في فهم الدين والحياة. الفرق ليس فرق أسماء، بل فرق عصور وطرائق نظر إلى الإنسان والعالم.
في الاولى تسود سلطة النص المعزول عن مقاصده وتختزل الاخلاق في طقوس شكلية ويقاس الايمان بدرجة الامتثال لا بعمق الفهم. وفي الثانية يتقدم العقل بوصفه اداة للفهم لا خصما للنص وتستعاد الاخلاق باعتبارها جوهرا انسانيا قبل ان تكون اوامر ملزمة.
اخلاق الطقوس تنتج انسانا مطيعا لكنه غير حر ومتدينا شكليا لكنه خائف وواعيا بالمحرم اكثر من وعيه بالعدل. اما الاخلاق الانسانية فتصنع فردا مسؤولا يرى في القيم فعلا يوميا لا واجبا موسميا وفي العدالة التزاما لا شعارا وفي الرحمة ممارسة لا خطابا. هنا يصبح الدين افقا اخلاقيا مفتوحا لا نظام ضبط مغلقا.
وسلطة النص حين تنفصل عن سلطة العقل تتحول الى اداة قمع مقدس اما حين يساندها العقل تصبح طاقة تحرير. فالسؤال الحقيقي ليس ماذا قال النص فقط بل لماذا قال وكيف يفهم في سياق انسان يتغير وتاريخ يتحرك. بهذا المعنى يكون العقل حارسا للمعنى لا متمردا عليه.
من هنا يبدأ التنوير الحقيقي: حين نغادر أخلاق الطقوس إلى أخلاق الإنسان، حيث العدالة ليست شعارا بل ممارسة، والرحمة ليست موعظة، بل بنية تفكير.
عندما نسأل عن النص كيف يُقرأ في سياق إنساني متغير. فسلطة النص حين تنفصل عن سلطة العقل تتحول إلى قمع مقدس، أما حين يتكئ النص على العقل، يصبح قوة تحرير.
وليس الانتقال من “اضربوهن” إلى “حرروهن” مجرد تبديل لغوي أو مزايدة أخلاقية، بل انقلاب في الوعي. هو الانتقال من رؤية المرأة كموضوع للضبط إلى الاعتراف بها كذات كاملة، عاقلة، حرة، مسؤولة عن حياتها ومصيرها. هو التحول من ثقافة الوصاية إلى ثقافة الشراكة، ومن منطق السيطرة إلى منطق الكرامة الإنسانية.
ان تحرير المرأة ليس قضية فرعية بل معيار اخلاقي لمدى تحرر المجتمع كله.
لا يتحقق التنوير حين تتكلم النخبة لغة لا يفهمها الناس، بل حين يتعلم الناس أن يسألوا، أن يشكوا، أن يربطوا بين القيم وواقعهم. وحين يصبح العقل ممارسة يومية، لا ترفا فكريا، والأخلاق اختيارا واعيا، لا امتثالا أعمى. ممارسة يومية. عندها فقط نغادر رشدية تخاف الحرية الى رشدية تصنعها ومن اخلاق الطاعة الى اخلاق الانسان.
وحين تنتصر رشدية ابن رشد لا بوصفها اسما تاريخيا بل ممارسة يومية يتحرر النص من الاحتكار ويتحرر الانسان من الوصاية ويعود الدين ظاهره انسانيه لا اداة ضبط. عندها فقط تسقط قداسة العنف ويتحول المقدس من سيف مرفوع الى ضمير حي ومن سلطة تفرض الى معنى يقنع.
فالتنوير في وجهه نظري لا يكتمل حتى تصبح الحرية حقا مشتركا والعقل عادة اجتماعية والمرأة انسانا كاملا لا موضوعا للتأديب. هنا فقط يتجاوز التنوير حدوده النظرية ويصبح فعلا حضاريا حين تختار المجتمعات ابن رشد طريقا لا رمزا وتدرك ان العقل ليس خصم الايمان بل شرط نجاته وان الانسان ليس وسيلة لتمجيد النص بل غايته الاخلاقية العليا. تلك هي لحظة التنوير الحقيقية حين ينتصر الانسان فينا جميعا
***
ابتهال عبد الوهاب






