قضايا

رشيد الخيّون: النِّزاع الفكري.. بين فضائل وفضائح

ربَّما لم يُعرف، ويشتهر مذهب المعتزلة، تاريخاً ومبادئ وأفكاراً ومواقفَ، مثلما عُرف أصحابه، ويأتي عمرو بن بحر الجاحظ(255هج) في المقدمة، وذلك لشهرته في الكتابةِ والبلاغةِ، حتَّى أُخذ مَن يُجيد الصنعة يُدعى بالجاحظ الثَّاني، ورداً على الخصوم كتب مدافعاً عن الاعتزال بعنوان «فضيلة المعتزلة»، فنقضه أحمد بن يحيى الشَّهير بابن الرَّاوندي (نهاية القرن الثالث الهجري) في كتاب سماه «فضيحة المعتزلة»، لكن على ما يبدو لم يجرِ هذا في حياة الجاحظ، فكتب الأخير جاءت خالية مِن ذكرٍ لابن الراوندي، والجاحظ لا يترك من ينقضه بلا نقض.

«فضيلة المعتزلة»، وفضيحة المعتزلة «عنوانان متناقضان تماماً، ومِن بعد ابن الراوندي تلقف العنوان-«فضيحة» -مؤرخو الملل والنحل مِن خصوم المعتزلة، فجاء كتاب عبد القاهر البغداديّ(429هج) مليئاً بـ«فضائح» شيوخ المعتزلة، بداية مِن مؤسسي الاعتزال، واصل بن عطاء(131هج)، وعمرو بن عبيد الباب(144هج)، ومنها فضائح الجاحظ، وكذلك نقل البغدادي وغيره مِن «فضيحة المعتزلة» مقالات مِن وضع ابن الرّاوندي، والأخير كان «معتزلياً» وتمرد على الاعتزال، وهو نفسه عند خصوم المعتزلة يُعد مِن الزنادقة، فأذيع «زنادقة الدنيا أربعة: بشَّار بن بُرد، وابن الرَّاوندي، وأبوحيان التَّوحيدي، وأبوالعلاء المعرّي» (الحنبلي، شذرات الذهب)؛ لكن مع ذلك صار (الزّنديق) ابن الرَّاوندي مصدراً ضد المعتزلة في كتب مَن شهدوا بزندقته.

كان التَّضاد واضحاً بين الفضيلة والفضيحة، فإذا اعتبر نفي القدر ونفي الصفات، وخلق القرآن، فضائل في كتاب الجاحظ، صارت فضائح في كتاب ابن الرَّاونديّ، لكن جوهر نقض ابن الراوندي على أصحابه السَّابقين هو دفاعه عن التشيع، وخصوصاً في قضية الإمامة، وللجاحظ كتاب في هذا الشّأن عنوانه «العثمانيَّة».

قد يسأل سائل: وهل وصلنا كتابا الفضيلة والفضيحة، كي نفهم ما كتبه الجاحظ، ونقيضه ابن الراونديّ؟ الجواب لم يصلنا أي من الكتابين، فهما مِن المفقودات، مثل الكثير مِن الكتب لم تصلنا غير عناوينها، بفضل كتب الفهارس، وكتب تراجم الرّجال. لكن ما يخص كتاب الفضيحة وصلنا الغالب منه في كتاب «الانتصار والرّد على ابن الراوندي الملحد»، لشيخ الاعتزال في زمنه أبو الحُسين عبد الرّحيم الخياط؛ الذي خدم خصمه ابن الرّاوندي في نقضه فقرة فقرة، يأتي بالفقرة ويرد عليها، ومنها وصلنا شيء مِن كتاب «فضيلة المعتزلة».

يعطينا ما كتبه الجاحظ مِن فضائل المعتزلة، وما كتبه ابن الرَّاوندي مِن فضائح، تصوراً على التّطرف في الصراعات الفكريَّة، وغياب التوسط والحوار فيها، فلا يوجد حوار أو تفاهم ما بين الفضيلة والفضيحة، كيف تشتد الخصومة، إلى درجة أن ابن الراوندي صار يوصف بالملحد مِن قِبل المعتزلة، وهو في الأمس كان مِن أعيانهم، وما الذي دفع الجاحظ يكتب تحت عنوان«فضيلة المعتزلة» غير الردود العنيفة على مذهبه الفكريّ؛ فالمعتزلة اعتبروا بشار بن برد، وهو صاحبهم السابق ملحداً وأفتوا بقتله، وخصوم الجاحظ قالوا في كتبه: «بِلا معنى، وَاسم يهول، وَلَو عرفُوا جهالاته فى ضلالاته»(البغداديّ، الفرق بين الفرق).

صحيح أنَّ المعتزلة اشتهروا كروّاد للحريَّة الفكريَّة، لقدرتهم على المناظرة، قياساً بزمنهم، لكنهم لم يكونوا كذلك مع خصومهم؛ فعلى ما تبدو، وإلى يومنا هذا، الحرية الفكريَّة كلمة فضفاضة المعنى، الكل يدعيها وينشدها، وهذا ليس في الفكر فقط، فهناك قصص كثيرة عن قمع الأدباء وإقصائهم بعضهم بعضاً، والأمثلة كثيرة، ناهيك عما يجري مِن تربص بالخصومة بين الشعراء والفقهاء؛ منها ما جرى بين الفقيه الشّافعي عبد الكريم السّمعاني(562هح) والفقيه الحنبلي أبي الفرج ابن الجوزيّ(597هج)، والعلة مذهبيّة لا شخصية، وكذلك ما حصل بين أبي الفرج الأصفهاني وأبي سعيد السّيرافي، وأبي نواس وشعراء عصره(الجهشياري، الوزراء والكُتاب)، إنكار الموهبة والجدارة. بمعنى أن مفهوم الفرقة النَّاجية لم يسود بين المذاهب الدِّينية فقط، إنما ساد مجالات الفكر والثَّقافة كافة؛ فلو ذكرناها سنجد مثالها بين فضائل وفضائح.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

في المثقف اليوم