قضايا
بتول فاروق: لماذا "الطاعة" قيمة عليا في الفقه الإسلامي؟
لطالما أثارني مفهوم الطاعة، التي يجب أن تقدمها الزوجة للزوج، وكذلك الأبناء للوالدين، وطاعة ولي الأمر، وأهميتها الدينية حتى أنها عُدت نظاما اجتماعيا قارا يجعلها قيمة عليا، وبما أننا أبناء اليوم وأبناء حضارة حديثة تركز على حقوق الإنسان الفردية، صرنا نرى في هذا النظام الثقافي غرابة، فالفكر الذي يرى الكون قائما على تراتبية صارمة، طبقات بعضها فوق بعض، يرى في الطاعة قيمة عليا، وهي ليست نظاما حكميا جزئيا بل بنية معرفية متجذرة في الفقه الإسلامي التقليدي، من خلال تصوره للإنسان والعالم والعلاقات التي تربط بين البشر. لقد قُدس مفهوم الطاعة لأنه – كما يبدو - مرتبط بمنظومة فكرية ثقافية كاملة.
السؤال الأول الذي يٌثير: لماذا تُقدم الطاعة كمفهوم ديني؟ لماذا حصلت على هذا التقديس؟
يمكن تحليل الأمر بالقول أن الحياة كانت تقوم على فكرة التراتبية الهرمية، وهذه التراتبية كونية يقوم عليها نظام الكون، فالعالم في نظر هذا الفهم مبني على سلسلة هرمية تبدأ من الخالق الله تعالى، ثم النبي أو الرسول، (ثم ولي الأمر خليفة الرسول ونائبه)، ثم الرجل وبعده المرأة ثم الطفل وبعده العبد [1].
فالله الخالق أولا في هذه الترتبية ويمثله على الأرض الرجل، الذي خُلق على صورته.[2]
هذه الأفكار ورثها الفقه من هذه الفلسفة القديمة التي كانت سائدة آنذاك- قبل مرحلة تكون الفقه الإسلامي- كالفلسفة اليونانية القديمة وقبلها البابلية والساسانية[3]. ففي فلسفة ارسطو الرجل هو العاقل الذي يملك المال، والمرأة منفعلة، وأن الفاعل أعلى من المنفعل[4]، كما أن البنية الاجتماعية القبلية كانت تنظر الى العائلة والأسرة كجماعة يقودها رجل، وبما أن العالم مبني على طبقات، تصبح الطاعة ضرورة لاستمرار النظام، فهي نظام كوني طبيعي بهذا الفكر الشمولي، وهي ضمان للاستقرار، وهي مقدمة على حقوق الإنسان الفرد، فالفقه التقليدي لم يُبن على فكرة " الحقوق الفردية " كما في الفلسفة الحديثة تكون بالعادة مع حفظ النظام الاجتماعي ومنع الفوضى وإبقاء السلطة في يد من يملكها. وبما أن الرجل هو السيد وال"قيّم " في النظام القبلي فأن طاعة المرأة للرجل هو وسيلة لحفظ البنية الاجتماعية، لا لحفظ كرامة المرأة أو مراعاة استقلاليتها وفردانيتها. أما طاعة الأبناء للوالدين فهي تحفظ الأسرة ووحدتها وسمعتها وانسيابيتها في انتقال القيم من جيل الى جيل دون أن تحمي حقوق الطفل بالضرورة.
لقد تم تصوير الطاعة كعبادة، فكتب الفقه تتحدث عن ذلك عبر الربط بين الحفاظ على مصلحة الذكر ونظامه وبين طاعة الله.
فطاعة الزوجة للزوج واجبة وجوبا مقدسا، لتصل الى لعنة ملائكية لها في حال المخالفة. هذا التقديس يمنع المرأة من الاعتراض لكونه خروجا عن نظام كوني وليس إخلال بعقد بين طرفين.
بل أن الطاعة المفروضة صارت مجالاً للتبادل المالي، فحياة المرأة تتوقف على هذه الطاعة، فهي ستحرم من الطعام والبيت والكسوة في حالة عدم الطاعة. فيتحول العقد الى عقد إعالة مشروطة.
جعل الحياة الزوجية تقوم على هذا المنطق عبر إجراء عقد يرسم العلاقة بين ذكر مطاع وأنثى مطيعة يحولها الى حياة تخلو من العاطفة المطلوبة، فهذه العلاقة ليست حوارا بين اثنين ندّين يجذب أحدهما الثاني بخصائصه الفردية الخاصة المثيرة، بل عبر القوة والإخضاع القانوني. تفترض نظرية الطاعة أن الرجل هو مركز السلطة والمعرفة في العلاقة والمرأة موضوع التكليف لا شريك في العلاقة والأسرة.
هذا المنطق لا يراعي مسألة الكرامة الإنسانية، ولا تضمن بالضرورة العدالة كقيمة عليا يستهدفها الفقه. فهذا المزج بين الدين كعبادة والدين كنظام اجتماعي جعل الطاعة اقرب الى كونها شعيرة دينية منها إلى التزام إنساني.
الفقه التقليدي القديم لم يناقش هل الطاعة عادلة؟ لماذا لدينا طاعة أصلا بل ناقش ما حدود الطاعة ومتى تسقط ومتى تلزم الزوجة بها وهل يجوز تأديب الزوجة عند النشوز؟
إن السؤال الأخلاقي الأساسي هو: هل الطاعة متوافقة مع الكرامة الإنسانية؟، هذا السؤال لم يُطرح الإ حديثا.
***
د. بتول فاروق الحسون
...........................
[1] - ظ: هيكل، عبد الباسط سلامة: نظرية الطاعة في الخطاب الإسلامي، التأسيس النصي والفعل التاريخي، مؤمنون بلا حدود، منشور: ١٦/ديسمبر / ٢٠١٦.
؛ خيري، صبري محمد خليل (الدكتور): تصحيح المفاهيم الخاطئة عن التشريع الإسلامي من المرأة وحقوقها،
https://drsabrikhalil.wordpress.com/2020/09/28
[2] - وروى مسلم (2612) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ ".
[3] - ظ:
[4] -ظ: تايلور، ريتشارد، تر: أشرف حسن منصور: أبن رشد الجدل الكلامي والفلسفة الأرسطية، مؤمنون بلا حدود،






