قراءة في كتاب

أنور فرج الله: كتاب "حزب الدعوة الإسلامية وجدليات الاجتماع الديني والسياسي"

قراءة تحليلية

يُعدّ كتاب «حزب الدعوة الإسلامية وجدليات الاجتماع الديني والسياسي» للدكتور علي المؤمن من أبرز الدراسات التحليلية المعمقة التي تناولت تجربة حزب الدعوة الإسلامية في العراق، من حيث النظرية والحركة والفكر والتاريخ والعلاقات والأداء. ويشكل الكتاب مرجعاً مركزياً لفهم أحد أقدم وأهم الأحزاب الإسلامية الشيعية، ويوفر للقارئ مادة غنية تربط بين الأبعاد التاريخي والسياسي والاجتماعي في مسيرة الحزب الممتدة من التأسيس وحتى مرحلة الحكم. ويضاف إلى مؤلفاته الأخرى، وخاصة «سنوات الجمر» و«صدمة التاريخ»؛ ليشكل أهم دعائم مشروع الدكتور علي المؤمن البحثي لإعادة كتابة تاريخ العراق السياسي والاجتماعي المعاصر.

يبدأ الكاتب بتأطير السياق التاريخي والاجتماعي لولادة الحزب في أواخر خمسينيات القرن العشرين، في ظل تصاعد المد الشيوعي والبعثي والقومي، وما رافق ذلك من استهداف لعقيدة وفكر الأمة، ويبرز دور المرجعية الدينية، لا سيما المرجع الإمام السيد محسن الحكيم (قدس سره) في دعم الفكرة التأسيسية ومباركة خطواتها الأولى.

ثم ينتقل إلى الحديث عن النخبة التي ساهمت في التأسيس عام 1957 في النجف الأشرف، مشيراً إلى العلماء والمجتهدين والمثقفين الذين بادروا إلى وضع اللبنات الأولى للحزب، ومنهم الإمام الشهيد محمد باقر الصدر، والشهيد السيد محمد مهدي الحكيم، والسيد مرتضى العسكري، والشهيد عبد الصاحب دخيل، وغيرهم من الرواد الذين ساهموا بدرجات متفاوتة في التأسيس والتنظيم.

يسلط الكتاب الضوء على الفكر السياسي والديني الذي تبناه الحزب منذ انطلاقته، والذي تمحور حول فكرة الإسلام كنظام شامل للحياة، مع تأصيل لمفاهيم أساسية مثل الولاية الفقهية والسياسية، ومبدأ الشورى، والعمل السري والعلني، والعلاقة بالمرجعية، ويكشف الكاتب عن تعددية الاتجاهات داخل الحزب، من المدرسة العراقية إلى التأثر بالمدرستين اللبنانية والإيرانية، ويعرض تطور الفكر السياسي للحزب عبر مراحله المختلفة، لا سيما التحول التدريجي نحو العمل العلني ومفاهيم الدولة المدنية بعد عام 2003، مع المحافظة على الإطار العقائدي العام.

وتناول المؤلف تنظيم الحزب وهيكليته الداخلية، مستعرضاً ملامح البناء التنظيمي المتأثر بالأحزاب الإسلامية واليسارية الأخرى، مركزاً على مبدأ الشورى، وآليات اتخاذ القرار، ودور القيادة المركزية في التوجيه والتخطيط. ويتوقف الكتاب عند (العالمية) التي اتسم بها الحزب في فترة من تاريخه، مشيراً إلى تأسيس فروع له في عدد من البلدان الإسلامية والعربية، ومحللاً الخلفيات العقدية والتنظيمية لهذا الامتداد.

في محور العلاقات الخارجية، يناقش الكتاب علاقة الحزب بالحركات الإسلامية الأخرى، مثل الإخوان المسلمين، وحزب التحرير، والجماعات الإسلامية في الهند وباكستان وتركيا، موضحاً طبيعة التوترات والتحالفات وحدود التفاهم الفقهي والسياسي التي حكمت هذه العلاقات.

كما يبحث الكاتب علاقة الحزب بولاية الفقيه والعمل الجهادي في الجمهورية الإسلامية في إيران، مشيراً إلى أوجه التباين والتقاطع بين التجارب المختلفة.

يشكل التصادم مع نظام الطاغية صدام محطة مركزية في الكتاب، حيث يستعرض أبرز محطات المواجهة بين الحزب والنظام البعثي الكافر، لا سيما انتفاضة صفر عام 1977، ومحاولة اغتيال الطاغية عام 1982، ودور الحزب في الانتفاضة الشعبانية عام 1991. ويبين الكاتب كيف لعب الحزب دوراً قيادياً في المعارضة المسلحة والسياسية في المنفى، مع احتفاظه بهيكله التنظيمي رغم الضربات القاسية التي تلقاها.

أما مرحلة ما بعد عام 2003 فاستعرضها الكاتب بوصفها نقطة تحول مفصلية، إذ انتقل الحزب من العمل السري إلى المشاركة في السلطة، ما ولّد تحديات كبيرة تمثلت في التوفيق بين الهوية العقائدية ومتطلبات الحكم. وهنا يناقش الكاتب تراجع الزخم الفكري والتنظيمي في الحزب، وبروز صراعات داخلية بين أنصار الدولة الإسلامية العقائدية وبين الواقعيين المؤيدين للانخراط في النظام الديمقراطي الجديد. كما يرصد مظاهر أزمة الهوية بين الحزب الدعوي من جهة، والحزب الحاكم من جهة أخرى. ويشير المؤلف الدكتور علي المؤمن إلى أن حزب الدعوة الإسلامية كان في صراع دائم بين الانتماء العقائدي ومتطلبات الواقع السياسي، وهو صراع لم يُحسم بعد رغم مضي أكثر من ستة عقود على التأسيس. ومن خلال فصول الكتاب، تتضح هذه الجدليات التي يستعرضها الكاتب بتسلسل منطقي يعكس تطور الحزب، وتداخله مع المرجعية، وتفاعله مع المجتمع والدولة، فضلاً عن علاقاته الإقليمية والدولية.

يحمل الكتاب قيمة استثنائية؛ فقد اعتمد المؤلف على مصادر داخلية نادرة، مثل الوثائق والبيانات الحزبية غير المنشورة، كما يتميز بالتحليل النقدي الذاتي الذي يقدمه باعتباره باحثاً مطلعاً ومقرّباً من التجربة، ويجمع في أُسلوبه بين السرد التأريخي والتحليل السوسيولوجي والسياسي، ما يجعل الكتاب وثيقة فكرية لا غنى عنها لفهم التداخل المعقد بين الدعوة الدينية والعمل السياسي في التجربة الإسلامية الشيعية المعاصرة. ويُعد الكتاب مرجعاً مهماً للباحثين والمهتمين بالحركات الإسلامية عموماً، وبالتجربة العراقية خصوصاً، لما يتضمنه من توثيق وتحليل وتأريخ فكري وتنظيمي شامل؛ لأنه يمثل قراءة تحليلية معمقة في فكر حزب الدعوة الإسلامية ومساره السياسي، ويوفر إطاراً مهماً لفهم تحديات الاجتماع الديني والسياسي في بيئة مثل العراق، حيث تتشابك الانتماءات الطائفية والدينية مع المشاريع السياسية.

***

أنور فرج الله

(أديب وباحث من العراق)

في المثقف اليوم