قراءة في كتاب
عدي البلداوي: قراءة في كتاب "الحوار ومراحل الوعي" للدكتور صالح الطائي

نقد وتحليل
يأتي اهتمامي بكتاب (الحوار ومراحل الوعي) للدكتور صالح الطائي، الصادر سنة 2024م في طبعته الاولى، من واقع اشتغالي على علم الانسان وعلى مشروع صناعة الوعي. كنت قد قرأت كثيراً من الكتب والموضوعات والبحوث تحت عنوان الحوار، اتذكر من بين اهمها كتاب للعلامة السيد محمد حسين فضل الله رحمه الله، كان قد اهدانيه خلال زيارتي لسماحته في مكتبه في ريف السيدة زينب في دمشق الشام عام 2004م، كان عنوانه على ما اذكر (الحوار في القرآن).
إن علم الإنسان أو الانثروبولوجيا، هو علم يعنى بدراسة كل ما له علاقة بطبيعة المجتمعات البشرية، ويأتي الحوار من بين أبرز صفات مرحلة الإنسانية، لاعتقادي أن الناس يمرون في حياتهم بمرحلتين، مرحلة البشرية ومرحلة الإنسانية. في مرحلة الإنسانية تبرز ثنائية الحوار والوعي كمحركات رئيسة في حركة تطور الانسان، وجاء اهتمامي بالكتاب بدافع معرفتي بالتجربة الحياتية المؤلمة، والقاسية، والخطيرة التي تعرض لها الدكتور صالح الطائي في سنوات المحنة حيث كانت عقول ونفوس وقلوب المأزومين انسانياً ونفسياً وفكرياً عبارة عن ظلمات بعضها فوق بعض في فترة الطائفية المقيتة التي مرت على ارض العراق التي شهدت تاريخياً أول ظهور لأهم ثنائية في مبنى أي حضارة، هي ثنائية الإنسان والكتابة. فعلى أرض العراق ظهر الإنسان الأول وظهرت الكتابة لأول مرة، وكان نبي الله ادريس المولود في بلاد بابل هو أول من خط بالقلم، وقد ذكره الحموي في كتابه "معجم البلدان".
تعرض الدكتور صالح الطائي الى الخطف والتعذيب على يد تلك الجماعات وقد ذكر ذلك في مقدمة الكتاب، ولأنني اعتقد بالأهمية الكبيرة والاثر البالغ للتجربة الحياتية في الممارسة الفكرية، اورد نص قوله: "تعرضت في بداية شهر تموز من عام 2006م الى الاختطاف على ايدي عصابة من المتطرفين الراديكاليين، وبقيت معتقلاً لديهم لمدة ثلاثة عشر يوماً، تعرضت خلالها للتعذيب الشديد، حتى انهم افقدوني احدى عيني، مما اضطرني الى اجراء عمليات جراحية عديدة لاستعادة الرؤية فيها، ولا زالت آثار تعذيبهم مرسومة على جسدي الى الآن تذكرني بجهالة من يندفع وراء الغوغاء دون أن يلتفت للنتائج السلبية التي يتعرض لها المجتمع، وصدف انهم اخرجوني في اليوم الأخير من وكرهم، في الساعة التاسعة ليلاً من يوم الجمعة الثالث عشر من تموز ليذبحوني في ساحة مهجورة، وهي عبارة عن قطعة أرض فارغة تقع في "الأربع شوارع" في مدينة اليرموك مخصصة للذبح مثلما أخبرني ضابط الشرطة الذي عثر لمرات متتالية على جثث مغدورين فيها، وكانوا قد أخرجوني بهذا الوقت اضطراراً، فهم قبل غيرهم يعلمون أن أمر منع التجوال يبدأ في هذا الوقت، وسبب إخراجي الاضطراري هو ان القوات الأمنية القت القبض على الأفراد الذين بعثوهم لاستلام الفدية، مما اضطرهم الى إخلاء وكرهم والاستعجال بذبحي ليتخلصوا مني، لكن بسبب منع التجوال ليلاً، وقبل ان يصلوا الى الساحة المقصودة بأقل من خمسين متراً، داهمهم رتل كبير من القوات الأمنية كان عائداً الى مقره من احدى واجباته الليلية المكلف بها، فألقوا القبض عليهم، وحرروني منهم ولله الحمد".
أوليت الكتاب اهتمامي طلباً لمعرفة تأثير هذه الواقعة الأليمة في فكر الدكتور الطائي، وماذا عساه يقدم من جديد في موضوعة الحوار التي لا يختلف عليها اثنان لأهميتها الدلالية على التحضر والثقافة والوعي. وكنت قد لمست بوادر ذلك الأثر في السطور القليلة التي تلت سرده لحادثة اختطافه، فهو يتحدث عن حياته بعد الحادثة فيقول: اختليت بنفسي، وجلست وحدي أراجع حساباتي كأي إنسان يشعر بأنه ظُلم وأن حقه مصادر، وحينها كانت أمامي عدة خيارات. قررت أن أختار من بينها الأقرب الى الله تعالى والى روح الإسلام ومنهج الانسانية، والى قلبي المطمئن برحمة الله تعالى، وهو ان اوظف خبرتي الحياتية والعلمية وقلمي ولساني للتثقيف والتنبيه...".
بعد ان حدد الدكتور الطائي نقطة انطلاق بحثه في (الحوار ومراحل الوعي) من أثر تلك الحادثة المروعة، وجدتني أمام عمل له خصوصيته التي حثتني على مواصلة قراءته، لأن من شأن التجربة الخاصة إذا ما صيغت على شكل بحث أكاديمي ان تصل الى نتائج جديدة تخدم الوعي العام للمجتمع، وهو ما يمكن استقراؤه من العنوانات الفرعية للكتاب المشتمل على مباحث تهيمن على مادتها لغة موضوعية قوية برغم وضوح أثر الانفعال الذي رافق الكاتب في رحلة اعداده للكتاب، بسبب تلك الحادثة المريعة، وفي اعتقادي ان الباحث لا يلام على ذلك، بقدر ما يستحق الثناء، لأنه استطاع بثنائية الإيمان والإنسان في ذاته ان يتحكم بمواقع الحروف الثلاثة: الف – لام – ميم في كلمة أمل وكلمة ألم، فآثار التعذيب الجسدي الذي تعرض له ترك أثره مستمراً في نفسه وذاكرته وهو امر اعتقده ضروريا جداً من أجل إنجاح عملية صناعة الأمل، شاهدي على ذلك ان الدكتور الطائي أضاف لفظة الوعي الى عنوان كتابه وكان يمكن الاستغناء عنها، لكنه بعث لنا برسالة مبكرة يخبرنا فيها انه نجح في اجراء عملية جراحية لفلسفة الحوار. وقلت: عملية جراحية لكي أضفي على جهد الدكتور طابعاً عملياً لا تأملياً مثلما يمكن أن توحيه كلمة فلسفة، فقد كشف في ص44 عن نقطة مضيئة في الشخصية العراقية حين استنتج أن طبيعة الفرد العراقي غالبة على بيئته المرحلية التي كانت ولا تزال مكتظة بالعنف والاضطراب والقلق في محطات كثيرة من حياة المجتمع، فالطائي يكشف لنا عبر سطور كتابه عن سر استمرار سلامة البناء الاجتماعي في العراق على الرغم من كثرة التهديدات والهزات التي لا يزال يتعرض لها كي يتداعى ليأتي النظام العالمي عارضاً مشاريع بنائه على وفق اجندات ثقافية عالمية قوامها تحويل المجتمع الى تجمعات بشرية مستهلكة فاقدة لمعنى الانسانية الى حد كبير.
ارى من المفيد ان اشير الى خطأ لغوي لازم الكتاب من صفحته الاولى حتى تمامه وهو كتابة لفظة (حوار) بضم الحاء والصواب بكسرها إذا اريد من اللفظ المحاورة بمعنى الكلام ومراجعة المنطق وهو ما أفادنا به معجم لسان العرب لابن منظور .
بدأ الدكتور الطائي بحثه بالحديث عن بدايات الإسلام وهي خطوة مهمة تحسب له في جانب البحث العميق الذي يريد ان يصل الى جذور الموضوع فتطرق الى حروب المسلمين والمشركين مشيراً في ص18 الى ان: "الاسلام من جانبه ولمدة تزيد على عشر سنين جعل المعرفة ومحاكمة العقل سلاحاً أوحداً لنشر دعوته"، من وجهة نظري ارى ان (سبيلاً أوحداً) تناسب موضوع البحث اكثر من (سلاحاً اوحداً).
يرى الدكتور الطائي ان خسائر المشركين في معاركهم امام المسلمين: "لم تأت من كون المسلمين اكثر منهم عدداُ وعدة، بل لأنهم كانوا مهزومين في داخلهم ويشعرون وكأن كل تلك المعارف التي كانوا يتشدقون بها ويحترمونها ويقدسونها بدت مجرد سفسطة خالية واوهام من سراب لا ترقى لأن تقف قبالة فكر حقيقي مثل الفكر القرآني الإسلامي"، وبودي ان اضع رأيي الى جانب رأي الدكتور في هذا الصدد، فأنا اعتقد ان هزائم المشركين جاءت من اكتشافهم مصدراً جديداً للقوة في خصمهم لا عهد لهم به، نسميه اليوم قوة الفكر الاسلامي، لكنه لم يكن كذلك حينها، لأن الحديث عن الفكر سابق لأوانه في تلك المرحلة المبكرة من الدعوة ، حيث كان العربي لا يزال مفتوناً بالقوة والشجاعة والبطولة فهو يعتبرها هويته، لذلك كانوا يقاتلون بقوة ضد المسلمين، وجراحات النبي في معركة أحد مثلاً تدلل على ذلك . لقد كان نبي الأمة يدرب المسلمين على حمل قوة الروح في اجسامهم النحيلة وبطونهم الجائعة وهذا ما فاجأ المشركين المولعين بالقوة وحفزهم على اكتشاف ذلك في عدوهم، ولما كان المسلمون ينتصرون عليهم مرة بعد اخرى، لم يجدوا بداً من الانقلاب الى معسكر الإسلام، ليس إيماناً منهم بالفكر الإسلامي بادئ الأمر، ولكن رغبة منهم في اكتساب تلك القوة الغريبة العجيبة التي تتيح لجسم نحيل جائع حمل سيف حديدي ثقيل عدة ساعات في جو صحراوي، في معركة مستمرة غير متكافأة متكافئة في العدد والعدة بين الفريقين، فقد كان عدد المشركين في كل المعارك اكثر من عدد المسلمين وكانت عدتهم أكبر من عدة المسلمين، في اعتقادي هذا هو سر الانقلاب الذي احدثه الدين الجديد في مجتمع الجاهلية . في ص37 تحدث الدكتور الطائي عن الدين في العراق وعده اهم (المفضيات للنزاع تاريخياً) فهو يقول: "إذ أن تنوع المعتقدات المذهبية في الدين الواحد حولها الى كيانات متنافسة وخلق حالة من النزاع التاريخي بينها"، أقول لو كان التنافس محور حركة المعتقدات الدينية لتطورت ثقافة العقل الديني، بينما لا تزال هذه البنية راكدة وكأن لم تمر عليها رياح التغيير منذ قرون، لذا اعتقد ان الصراع وليس التنافس هو ما كان يحرك تلك المعتقدات المذهبية، فالصراع كلمة تحتمل في حركتها على غلبة قوة العصبية على قوة العقل الموضوعية، في حين لا تحتمل كلمة تنافس سوى اخضاع العصبية لسلطة العقل الموضوعية .
بعد رحلة بحث شيقة يصل الدكتور صالح بالقارئ في ص62 الى احدى النتائج المهمة في قوله: "لذا يجب ان لا نتخوف من الحوار مطلقاً، بل يجب ان نتخوف من عدم وجود طريقة للحوار، او الفشل في ايجاد قاعدة سليمة لإجراء الحوار المتمدن والمتحضر بين المذاهب الإسلامية....". ثم ذكر في ص63 (القوة الهادفة) في خط حركة الإسلام كدين يؤسس لحركة الحياة في المجتمع، فجعل استخدام قوة العضلة في مواجهة قوة العناد التي ينتج عنها الظلم والفساد والفوضى، وقد اجاد الدكتور الطائي وهو يسرد الضوابط التي وضعها الإسلام لاستخدام قوة العضلة، وهذا ما يفتقده مجتمع السلطة في عالمنا العربي المعاصر .
لقد تمكن الدكتور الطائي في 220 صفحة من كتابه (الحوار ومراحل الوعي) من رسم لوحة واضحة المعالم لأزمة المجتمع العربي الإسلامي المعاصر مستعملاً قلمه في تأشير عناصر تلك الأزمة، فظهر السيف في تفاصيل هذه اللوحة، وظهر التطرف والنزاع والعنف، يقابلها العقل والايمان والحرية، مستعملاً علامات استفهام كثيرة حركت الوان اللوحة وجعلتها منفتحة على الحوار والوعي كنتيجة لا بد منها لسلامة استمرار الانسان في الحياة .
***
عدي عدنان البلداوي