قراءة في كتاب

عدنان حسين أحمدك الحاكم والمحكوم في العالم العربي (2-2)

يشتمل الفصل الثالث الذي انضوى تحت عنوان "الشخصية العربية والتغيير" على خمسة عشر موضوعًا أولها (تحديات أمام العلماء والمفكرين العرب في تحقيق التغيير) تناول فيه الكاتب وقائع مؤتمر العلماء والمفكرين العرب بالقاهرة الذي انطلق من حقيقتين: الأولى أنّ العلماء والمفكرين هم مصانع لإنتاج الأفكار. والثانية أنّ دور العلماء والمفكرين العرب تحديدًا يترجّح بين الضعيف والمُعطّل. وقد تمّ تسمية الدكتور قاسم حسين صالح الرئيس الفخري للمؤتمر حيث ألقى كلمة دقيقة ومُعبِّرة ركّز فيها على محاور عدة نذكر منها: 1- أنّ الرؤساء العرب تتحكّم بهم سايكولوجيا الخليفة وانتقد تشبثهم بكرسي السلطة. 2- هجرة العقول العربية المُبدعة إلى فضاءات العلم والحرية. 3- هيمنة الإرهاب، والتطرّف الديني، والفكر التكفيري، والفتنة الطائفية والجهل. 4- إشاعة ثقافة التيئيس وقطع الأمل بين الناس.

يمكن اختصار سايكولوجيا الغالب والمغلوب بإعادة إنتاج صورة النظام الدكتاتوري في جلباب ديمقراطي. فالحزب الحاكم في سلطة 2014 كانت تتحكّم به فكرة مفادها إذا خسر الانتخابات فسوف تُجرى له تصفية كالتي جرت لحزب البعث حتى لو كان رئيس الوزراء من الطائفة نفسها.

يرى الباحث أنّ شخصية الإنسان ويعني بها تفكيره وسلوكه يُسهم في تكوينها ثلاث مؤسسات وهي: (الأسرة والمدرسة والسلطة). ولمن يريد الاستزادة فعليه العودة إلى الكتاب للغوص في المعطيات الثلاثة المُشار إليها توًا.

تبادل الأدوار

ينفي المؤلف في موضوع سادية السلطة ومازوشية المواطن في العراق وجود شخصية عربية واحدة أو شخصية عراقية واحدة لسببين في الأقل:( 1- التنوّع الاثني والديني والمذهبي. 2- وقوع أحداث كبيرة في الأربعين سنة الأخيرة أسفرت عن تغييرات في الشخصية العراقية. ويرى الباحث أنه من الأصوب القول بوجود أمرين: 1- توفّر خصائص يشترك بها معظم الشعب العراقي وغالبية الشعب العربي. 2- وجود شخصيتين متمايزتين: الأولى تمثل جيل الكبار المولودين قبل 1975 والجيل الثاني المولود بعدها. يؤكد الباحث بأنّ الشخص السادي لا يُحقق متعتهُ الجنسية ولا تحدث عنده (الرعشة الجنسية) إلّا بإيقاع الألم على شريكته في العملية الجنسية. أمّا المازوشي فلا يحصل على اللذة أو الرعشة الجنسية إلّا بعد أن يقوم الطرف الآخر بإيقاع الألم فيه. يتفق علماء النفس بأنّ الشخصية تتكون من أربع مكونات رئيسة وهي: 1- المكوِّن الجسمي 2-المكوِّن العقلي 3- المكوِّن النفسي 4- المكوِّن الاجتماعي. يلفت الباحث انتباه القرّاء إلى الأنظمة التي تسلّمت في العراق على مدى 1400 سنة الماضية وهي: الأمُوي والعباسي والعثماني والبعث وقد مارست هذه الأنظمة الظلم والاضطهاد ضدّ الخصوم ومثّلت برموزهم وهي مُصابة بثلاثة أمراض رئيسة وهي السادية والسايكوباثية والنرجسية. وفي زمن البعث تحديدًا بدأ تدجين العراقيين من خلال الانتماء لحزب البعث، والالتحاق بالجيش الشعبي، والحصول على البطاقة التموينية، والحملة الإيمانية، والعزاء في عاشور. ويستنتج الباحث بأنّ المازوشية هي صفة تغلب على الشيعة، والسادية صفة تغلب على السُنّة لكن بعد 2003 تمّ تبادل الأدوار حيث استلم الشيعةُ السلطةَ وأصبحوا جلّادين، وصار السُنة معارضة وأصبحوا ضحايا. فلم تتخلص السلطة من ثقافة الاستبداد وإنما رسّخت ثنائية الجلاد والضحية من جديد.

يحظى الإرهاب والشخصية الداعشية باهتمام الباحث في هذا الكتاب. ويرى المؤلف بأنّ هناك خمسة منطلقات للإرهاب وهي: (1- المنظور الاجتماعي 2- المنظور الحياتي البايلوجي 3- المنظور الاقتصادي 4- المنظور المعرفي 5- المنظور الدينامي النفسي). لا يهتم الباحث كثيرًا إن كانت الشخصية الداعشية الإرهابية صناعة أمريكية أو إيرانية أو سعودية أو سورية وإنّ ما يهمّ هو التركيز على ماهيتها وطبيعتها الإجرامية. فشخصية الإرهابي مركبّة تجمع في خصائصها خمس شخصيات مُصنّفة في الطب النفسي على أنها مضطربة وغير سوية وهي (الزوريّة، النرجسية، الوسواسية القهرية، الفصامية، والشخصية المُعادية للمجتمع) ويستدرك بتوضيح الشخصية الزوريّة فيقول عنها بأنها (مُصابة بالبارانويا ويشعر صاحبها بالاضطهاد وأنّ حقوقه مهدورة). لم يأتِ الباحث بهذه المعلومات من مخيّلته المُجنّحة وإنما هي أفكار مُدانين بجرائم الإرهاب اعترفوا بها أمام الملأ فوثقها وقدّمها للقرّاء من جديد. وأنّ نظرة الإرهابيين إلى الدين تتجاوز الحدود الوطنية والقومية إلى الجانب الأممي.

هُويات فرعية

يعقد المؤلف مقارنة بين الشخصيتين العراقية والمصرية ويكتشف بأنّ المصريين حققوا في سنة واحدة ما عجز العراقيون عن تحقيقه في 18 سنة. فالمصريون هم الذين أسقطوا نظام حسني مبارك بينما الأمريكان هم الذين أسقطوا نظام صدام حسين. وأنّ الجيش المصري لم يقمع شعبه بينما قمع الجيش العراقي شعبه لأنه أداة بيد الحاكم. كما توزّع العراقيون على هُويات فرعية بينما ظلّ المصريون موحدين بهُويتهم الوطنية المصرية.

يختصر الباحث دور اللاوعي الجمعي في أربع قضايا وهي: (صناعة الدكتاتور، صناعة الأزمات، الاحتراب الطائفي وصراع الهُويات). أمّا آليات اللاوعي الجمعي فهي ستة:( 1- التعامل مع الماضي 2- تغليب العقل الانفعالي على العقل المنطقي 3- ثنائية الـ "نحن" والـ "هُم" 4- الحَوَل العقلي 5- أن أكون أو لا أكون 6- الإيمان بفكرة المُخلِّص).

يتوصل الباحث إلى وجود تسع عُقَد في الشخصية العراقية وهي: (1- العِناد العُصابي 2- عُقدة البارانويا 3- عُقدة الاستهداف 4- عُقدة أخذ الثأر 5- عُقدة التعصّب للهُوية 6- الزهو بالذات 7- التصلّب الثقافي 8- تقديس الشخصيات 9- التباهي بالماضي). ويرى الباحث أنّ تغيير الواقع العراقي يبدأ بتغيير الناس لأنفسهم وتحديدًا بتغيير اللاوعي الجمعي في العقلية العراقية.

جلباب الماضي

يعتقد الباحث بأنّ العالَم يوظِّف الحاضر في خدمة المستقبل بينما يوظِّف العرب الحاضر لإحياء الماضي. فالعرب أمة نكوصية تستجير بالماضي وتحتمي به وتُضفي على ما تستدعيه صفات الزهو والعظمة. ويتوصل الباحث إلى أنّ التوقف عند الماضي يؤدي إلى انفعالات بينما يفضي التوقف عند المستقبل إلى إثارة الفكر ويتمنى علينا أن نخلع جُلباب الماضي ونؤمن بالحاضر ونتطلع بكل قوة إلى المستقبل.

تزخر فصول هذا الكتاب بالدراسات الطريفة من بينها أن يكتب الإنسان رسالة إلى نفسه. وقد قسّم الباحث شخصيات أصحاب الرسائل إلى ثلاثة أقسام وهي: (1- الشخصية السليمة 2- الشخصية المُعتلة نفسيًا 3- الشخصية الضحية) وتبيّن أنّ الشخص العربي شخصية قدرية ولديه هوس بالجنس.

يتوقف الباحث عند موضوع (الفساد في العالم العربي) ويرى أنه قد انتشر بطريقة تُشبه العدوى، والأغرب من ذلك أنه تحوّل من فعل كان يُعدّ خزيًا إلى تصرف عادي لا يثير الاستغراب. ويعتقد أن الفساد قد غدا مُشرعنًا لثلاثة أسباب وهي: (1- إعطاء رواتب رواتب فلكية للرئاسات الثلاث والوزراء وأعضاء البرلمان وذوي الدرجات الخاصة. 2- وجود 12 ألف عنصر حماية موزعين على أعضاء مجلس النواب والمسؤولين الكبار في الدولة بمعدل 30 فردًا لكل مسؤول بعضهم فضائيون كلّفوا الدولة أموالًا طائلة. 3- التحاصص). ويرى الباحث أنّ هزيمة الجيش العراقي أمام داعش دفعهم للقول في دواخلهم (لا نريد أن نقاتل حماية للحكّام الفاسدين). ودعا الباحث إلى الإفادة من التجربتين السويدية والسنغافورية؛ إذ كانت السويد أفسد الدول الأوروپية وهي الآن أنظف دولة وخالية من الفساد تمامًا.

الألوان الجذّابة

يتناول الباحث موضوع (التحرّش الجنسي بنسخته العراقية) ويعزوه إلى البطالة وعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي. أمّا بصدد النسب فيؤكد بأنّ التحرّش يوجد بنسبة 5% في المجتمعات الأوروپية و 80% في مصر وهذه نسبة عالية جدًا ولافتة للانتباه. ويكشف الباحث من خلال التجربة الميدانية أنّ اللونين الأصفر والأحمر يجذبان أنظار سوّاق التاكسي الذين يبدؤون بالتحرّش. كما أنّ الفتيات اللواتي يتناولنَ الآيس كريم يُثرنَ الشباب الذين يشرعون بالمعاكسة. وفي إحدى الندوات التي دعا فيها المؤلفُ الكاتبَ المعروف وعالِم الاجتماع علي الوردي الذي قال إنّ منع الاختلاط بين الجنسين يُكثِر من ظاهرة اللواط بين الذكور والسُحاق بين الإناث وهي ملحوظة علمية جديرة بالانتباه.

يكتب الباحث عن موضوع "مِحنة اللغة العربية في أهلها" وهو موضوع شائق وفيه جهود إحصائية واضحة تتوفر في العديد من مقالاته وأبحاثه وكتبه. يوّضح الباحث بأنّ الأمم المتحدة قد وافقت بقرارها المرقم 3190 الصادر سنة 1973م باعتماد 18 ديسمبر / كانون الأول يومًا عالميًا للغة العربية بجعلها لغة رسمية للجمعية العامة وهيئاتها إلى جانب خمس لغات مُعتمدة وهي الإنگليزية والفرنسية والصينية والإسبانية والروسية. وقد اعترضت أمريكا في البداية بحجة أن الملوك العرب يتحدثون اللغة الإنگليزية لكنها خضعت للأمر الواقع. فعدد المتحدثين باللغة العربية في حينه بلغ 425 مليون نسمة وهو عدد كبير قياسًا باللغات الأخرى. كما أن مفردات اللغة العربية قد بلغ 12.303.000 مليون كلمة بينما عدد كلمات اللغة الإنگليزية 600000 كلمة والفرنسية 150000 والروسية 130000. يشير الباحث إلى أنّ البرلمانيين والمسؤولين العراقيين ما بعد التغيير يرتكبون أخطاءً فظيعة في اللغة العربية ويورد مثالين لهذه الأخطاء فهم يكتبون كلمة شكرًا بالنون (شكرن) ولكن (لاكن) وأخطاء أخرى كثيرة لا مجال لذكرها الآن. ويستذكر الباحث حينما قدّم لوظيفة مذيع اختارت اللجنة 10 أشخاص فقط من أصل 1200 متقدّم للاختبار.

فاجعة أربعاء باريس

أشرنا سلفًا إلى أنّ دراسات وأبحاث الدكتور قاسم حسين صالح مستوفية لغالبية شروطها خاصة وأنه يعزز كتاباته بالمصادر والإحصائيات الموثقة الأمر الذي يُطمئن القارئ ويدفعه لقراءة أبحاثه بثقة كبيرة لا يرقى إليها الشك. و (حرب الأنبياء في العقل العربي) بشقّيه المناقشة الفلسفية والسايكولوجية تصبّان في هذا الإتجاه ففيهما إحصائيات كثيرة ومتابعة دقيقة لسير الأحداث ما يثير العجب حقًا أو القناعة التامّة في الأقل. يصف الباحث حادثة (شارلي إيبدو) بفاجعة أربعاء باريس وهي كذلك. ففي 7 / 1 / 2015م حدث انتقام من صحيفة (شارلي إيبدو) التي نشرت صورًا تسخر من النبي محمد حيث قتل الإرهابيان سعيد وشريف كواشي في أقل من عشر دقائق 12 شخصًا بينهم 5 من رسامي الكاريكاتير نشروا رسومًا تسخر من النبي محمد وقد وُصف هذا المشهد بأنه الأكثر دموية في فرنسا منذ أربعين عامًا ولاذ المسلحان بالفرار وهما يهتفان (الله أكبر، لقد انتقمنا للرسول وللنبي محمد) وانتهت الحادثة الدرامية بقتلهما على أيدي الشرطة الفرنسية في 9 / 1 / 2015. وفي يوم الأحد 11 / 1 / 2015 شهدت باريس أضخم مسيرة إدانة وتضامن قُدرت بالملايين يتقدمها روؤساء وممثلو خمسين دولة. وفي 13 / 1 / 2015 صدر أول عدد من صحيفة شارلي إيبدو بخمسة ملايين نسخة وبـ 16 لغة بضمنها اللغة العربية بعد إن كانت تصدر بـ 60000 ألف نسخة تصدر بـ 6 لغات لا غير وقد تصدرت غلاف العدد صورة للنبي محمد يحمل لافتة مكتوب عليها (أنا شارلي) مع دمعتين منسابتين على الخدين. وقد أصرّ القائمون الجُدد على الصحيفة مواصلة نهجها في السخرية من الأديان. وقد استنكر الأزهر الرسوم ووصفها (بالخيال المريض وبأنها منفلتة من كل القيود الأخلاقية). كما نشرت صحف أوروپية هذه الصور وكان الهدف الأول منها سياسي فثمة رجل ملتحٍ يرتدي عُمّة كُتب عليها (لا إله إلّا الله) وفتيل مربوط بقنبلة يعني أنّ الدين الإسلامي (دين عنف)، والثاني أخلاقي تمثله صورة تشير إلى أنّ النبي محمد كان يضطهد النساء. وأنّ الهدفين يُفضيان إلى المُقارنة بين الأنبياء من جهة والأديان من جهة أخرى. يوضِّح الباحث أنّ الفكر يتطوّر بجدلية أنّ الضدّ يخلق ضدّه النوعي عبر مراحل زمنية بدأت بالتفكير الديني بوصفه الضدّ النوعي للتفكير الخرافي، والتفكير العلمي بوصفه الضدّ النوعي للتفكير الديني لتصل الآن إلى مرحلة الإلحاد. وإذا كان القسم الأول من المقال يتحدث عن البُعد الفلسفي فإن القسم الثاني يتحدث عن البُعد السايكولوجي. المعروف عن الغرب أنه يعرّي المسكوت عنه دائمًا ولا يجد حرجًا في تناول أي موضوع ديني أو أخلاقي لكن الباحث يعتقد بخطأ التعميم وما قام به الإرهابيان لا يصح تعميمه على 1.6 مليار مسلم وأنّ القائمين بالجريمة ثقافتهما أوروپية أكثر منها إسلامية. وقبلهما كان محمد عطا يحتسي الويسكي في بارات هوليوود على ذمة أريك داڤيس في الـ (وول تربيون). أشار الباحث إلى أنّ الصحيفة كانت تغضّ الطرف عن محاكم التفتيش وعن أفعال منظمة كو كلوكس كلان التي تؤمن بالتفوق الأبيض ومعاداة السامية والكاثوليكية وتعمد إلى استعمال العنف والإرهاب والتعذيب كالحرق على الصليب.

التطرّف والحَوَل الإدراكي

ويرى الباحث أنّ جميع المؤمنين بالأديان متعصبون لأديانهم وأنّ المتطرفين مُصابون بحَوَل إدراكي. أمّا الفكرة الثانية التي أثارتها الصحيفة هي أنّ الإسلام مُهدِد للديمقراطية التي روّجت لها أجهزة الإعلام الغربية بعد ثورة الخميني وشكّلت صورة نمطية عن المسلم كناقل للنفط وكإرهابي بحسب تعبير أدوارد سعيد. وأكثر من ذلك فإنّ المسيحية تنظر إلى محمد كقائد عسكري أو مصلح اجتماعي وليس نبيًا بينما يعترف الإسلام بأنّ عيسى نبي بينما لا يعترف الدين المسيحي بنبوة محمد. يلفت الباحث الأنظار إلى أنّ مظاهرات لايبزك التي انطلقت في 20 / 1 / 2015 وصفت المهاجرين المسلمين بأنهم (حيوانات) فضلًا عن مسلمين يقيمون في دول أوروپية يعيشون بأسفل السلّم الاجتماعي. ويُذكِّر الباحث بأنّ هناك ثلاثة أنبياء نالوا قبول الناس ومحبتهم وهم موسى وعيسى ومحمد ولديهم أتباع بمئات الملايين أو أكثر أحيانًا. وتوقع عالم السياسة الأمريكي صامويل هنتنجتون أنّ حروب المستقبل ستكون ثقافية وأنّ مرحلة ما بعد الحرب الباردة ستكون مرحلة صراع الحضارات.

يتناول الدكتور قاسم حسين صالح في الفصل الخامس والأخير الذي ينضوي تحت عنوان (النكتة . . وسايكولوجيا القهر) أربعة موضوعات تغطي النكات المهذبة، والنكات البذيئة، والنكات السياسية، والنكات الجنسية حيث يطرح عدد من الفلاسفة (نظرية الترويح) ويرون أنّ النكتة القوية تحرر المتلقي من القلق والأفكار السلبية حيث يعمل الضحك على غسل ما في داخل الفرد من انفعالات سلبية وتشاؤم. وأنّ النكتة الجيدة تحمل قيمة جمالية تُحدث تأثيرًا جسميًا مُرافقًا للإحساس بالجمال وأنّ الضحك الذي تُحدثه النكتة هو ردّ فعل جسمي يحرّك 14 عضلة في الوجه ويمدّ الجسم بالدم المشبّع بالأوكسجين فيتورد الوجه وترتخي العضلات وتقوي المناعة وتقلل هرمونات التوتر بحسب رأي علماء النفس ولكن الإفراط في الضحك قد يؤدي إلى السكتة القلبية.

يرى الباحث أنّ المرح سمة شعوب البلدان الحارة مثل مصر والسودان، وأنّ النكتة تحمل مفهومًا واضحًا والحلم يحمل مفهومًا غامضًا. ويرى الباحث أن أجمل وصف للنكتة أنها (جملة مُصاغة بخفة دم، ومكر عميق، وكوميديا سوداء تجعلك تضحك وتستلقي على ظهرك ثم تتركك تفكر بعمق). قد تكون النكتة نظيفة أو تحمل دوافع عدوانية مثل التشفي أو الشماتة أو تحقير الآخر أو السخرية من معتقدات أو دين أو طائفة أو مكوّن اجتماعي محدد.

العصر الذهبي للنكتة

يعود بنا الباحث إلى التاريخ الموغل في القدم ويخبرنا بأنّ أقدم نكتة سومرية تعود إلى عام 1900 ق. م، إذ كانت النكتة شائعة في الحضارات الفرعونية والأغريقية والأوروپية. يستشهد الباحث ببعض الأمثلة مثل كتاب (الفكاهة) لپوجيو براتشيلوني الذي نشر أول مرة عام 1470 ويحتوي على 273 نكتة تدور معظمها على شخصيات الغبي والبخيل والمتبجح جمعها عبر تجوله في أوروپا.  فيما يُعد عصر شكسبير هو العصر الذهبي للنكتة المهذبة التي أدخلَ عددًا منها في مسرحياته. وفي العربية يُعدّ كتاب (أخبار الحمقى والمغفّلين) لأبي الفرج الجوزي وكتاب (البخلاء) للجاحظ ونوادر جحا هي الأكثر شهرة في مضمار النوادر والطُرف. وكانت هذه الكتب تركّز على الظواهر الاجتماعية والسياسية. كما يُذكِّرنا الباحث ببعض الشخصيات العربية التي تخصصت بالنكتة مثل أشعب والبهلول وأبي العتاهية غير أن شخصية جحا تظل أشهر شخصية فكاهية في التاريخ العربي ويقال إنّ اسمه هو أبو الغصن دُجين الفزاري وحكمة هذا الرجل أنه يتظاهر بالجنون ليقول الحقيقة أو أنه أراد أن يقول لنا أنّ الجنون هو السبيل الوحيد لقول الحقيقة في عالمٍ يبدو للآخرين معقولًا بينما هو مليء بالمفارقات غير المعقولة.

يُورد الباحث أمثلة لعدد من الشعوب التي تحب النكات. فالبريطانيون يحبّون النكات التي تشمل اللعب على الألفاظ، بينما يفضِّل الأمريكيون النكات التي يتسيدها أبطال أغبياء. أمّا الأوروپيون فيحبون النكات ذات المضمون الذهني والعراقيون يحبون النكات الجنسية والسياسية. ويعتقد الباحث أنّ المصريين هم أطرف شعب عربي في تبادل النكات الساخرة التي تستهدف المتعة والإضحاك. ويرى أنّ النكات البذيئة تقل في الشعوب المتطورة وتكثر لدى الشعوب المتخلفة.

النكتة.. هتاف الصامتين

يرى الباحث أنّ الوظيفة الأولى للنكتة هي النقد الساخر لظاهرة اجتماعية أو سياسية أو أخلاقية وتشخيص لمواطن القبح والخلل في القيم والأخلاق والعلاقات الاجتماعية والأسرية تُصاغ بأسلوب فكه ولاذع يجذب المتلقين ويمكن اختصار النكتة عربيًا بأنها (هتاف الصامتين ووسيلة المقهورين للتغلب على القهر). ويرى الباحث أنّ النكتة هي وسيلة لكي نغطي عجزنا عن أزماتنا، وأنّ أكثر من يمارس النكتة هم الناس البسطاء أو العاجزون. يعتقد الباحث أنّ النكتة السياسية هي نقد موجّه نحو شخصية سياسية أو نظام حُكم تُصاغ بأسلوب ساخر أو هجاء صريح أو رسالة مُشفّرة يتناقلها الناس همسًا أو يتداولونها في المقاهي أو تُقال على خشبة المسرح تستهدف فضح الحاكم المُستبد، المتفرِّد بالسلطة والثروة وكشف نواياه العدوانية ضدّ الشعب. وأحيانًا تلجأ الحكومة إلى بث نكات عن المُعارضين لها للنيل منهم. فالنكات في زمن عبدالناصر كانت تُبثَ لتسقيط عبدالحكيم عامر، ومؤخرًا تمّ استعمالها لتسقيط محمد البرادي وحمدين صباحي أو تسقيط مكوّن كما فعل صدام مع الشعب الكوردي أو الأطراف المعارضة له. وقد طلب صدام في السنوات الأخيرة لحكمه تحليل النكات السياسية التي تُقال ضده بهدف الوقوف على أسباب إطلاق هذا النمط من النكات السياسية.

***

عدنان حسين أحمد (لندن)

في المثقف اليوم