قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: الكرامة في عيون الانكسار

قراءة رمزية نفسية في قصيدة الشاعرة عفاف عمورة"

تمهيد: القصيدة موضوع الدراسة ليست مجرد نَظم وجداني، بل هي صرخة وجودية تنبثق من قلب الجرح الفلسطيني، وتتشكل في لغة رمزية مكثفة تتراوح بين الانكسار والصمود، بين الندبة والأمل، بين النفي والانتماء. تحمل القصيدة نبضاً داخلياً مشحوناً بتوترات الذاكرة الجمعية والهوية، كما تنضح بالحنين إلى وطن يتعذر احتضانه جسدياً، لكنه يفيض حضوراً شعورياً ونفسياً.

أولاً: البنية الرمزية – الأرض، النار، الانكسار

توظّف الشاعرة رموزاً ذات دلالة كثيفة:

* "الجرح"، "النار"، "الظلال": ترمز إلى الألم الجماعي، الخسارات المتتالية، ودوامة النفي والشتات.

* "القدس"، "الدار"، "الديار": هذه الكلمات تتكرر لترسّخ الحنين المكاني وتُجسد الوطن بوصفه معادلاً رمزيًا للأم، للقداسة، للهوية.

* "الانكسار": يُعاد لفظيًا ودلالياً، لكنه لا يُستسلم له، بل يُعادِل بشعار لا يرضى الاستسلام:

"سَمًا بِأنَّا لا نُطيقُ انْكِسَارا"

فالرفض لا يعني غياب الانكسار، بل المجاهدة في تجاوزه.

البعد الرمزي للـ"الماء" والـ"دمع":

"ونَسْقِي مِنْ مَدامِعِنا الدِّيارَا"

الدمع هنا ليس ضعفاً بل طقس تطهير، رمزياًً يحمل دلالة الخصوبة والارتواء، كأن الحزن الفلسطيني يُخصّب الأرض في انتظار الربيع.

ثانياً: التحليل النفسي – الهوية في مواجهة النفي

القصيدة مرآة لوجدانٍ مشتّت، بين انفعال الحنين وانضباط الأمل، بين صدمة الاقتلاع وشرارة الاستمرار.

1.  ملامح الإنكار والتحوّل:

"وَنَسْكُتُ – والضّمائرُ في اشْتِعالٍ –

كَأَنَّ الصَّوْتَ قدْ خَافَ انْكِسَارَا"

السكوت هنا ليس صمتًا تاماً، بل صراع داخلي بين ما يجب أن يُقال وما يُمنع قوله. وهو ما يعبّر عن آلية دفاعية نفسية تُعرف بـالإنكار، حيث يصير الصمت ملاذاًً من القهر، بينما الحقيقة تشتعل داخل الضمير.

 2. أيديولوجيا الأمل كإستراتيجية مقاومة نفسية:

"ولَوْ طَالَ الزَّمانُ بِهِ انْتِظَارَا"

الإصرار على الأمل، رغم الامتداد الزمني للألم، يعكس حاجة النفس لتشكيل هوية مستقرة في وجه التفكك، فالأمل – وفقاً لتحليل كارل يونغ – يشكل النقيض المعادل للظل، أي إنه وظيفة نفسية تُوازن الجرح الجماعي.

ثالثاً: المقاربة السوسيولوجية – الذات الجماعية تحت الاحتلال

القصيدة تمثّل صوت الهوية الجمعية الفلسطينية وهي تحاول أن تُرمم ذاكرتها وتعيد بناء معنى الكينونة الوطنية:

"نُطَهِّرُ تُرْبَها مِنْ كُلِّ دَخْنٍ

وَنُطْفِئُ في الحِمَى وَجَعًا وَشَوْقَا"

التطهير هنا يتجاوز المعنى الديني أو الطقسي، ويأخذ بعداً اجتماعياً: مقاومة التشويه الرمزي والمعنوي للهوية الفلسطينية. فـ"الدخن" هو كل ما علق بالهوية من تحريف، من تزييف، من احتلال للوعي.

السرد الجماعي مقابل السرد الاستعماري:

"نَرُدُّ إلَى حِكايَتِنا اعْتِبارَا"

في هذه العبارة تتكثف وظيفة الشعر كمقاومة سردية، حيث التاريخ المستلب يُستعاد بالكلمة، ويُسترد بالذاكرة. القصيدة هنا ليست فقط أدبًا، بل فعل اجتماعي رمزي يعيد صياغة سرد الذات في مواجهة محوها.

رابعاً: فلسفة القصيدة – بين ثنائية الألم والأمل

القصيدة تتأرجح فلسفيًا بين نقيضين: الانكسار بوصفه قدراًً، والكرامة بوصفها خياراً. وبينهما، تقف "عفاف عمورة" على تخوم الذات المنفية، ترسم حدود الجرح، وتفتش عن خلاص لا يأتي من الخارج بل ينبثق من وعي الداخل.

"وَلكنَّا نُرَمِّمُ مِنْ شُظايَا

رجاءَ القلبِ... لا نَرضَى انْتحَارَا"

هذه الخاتمة هي ذروة القصيدة فلسفياً ونفسياً، فـ"الانتحار" هنا ليس فعلاً جسدياً بل استسلامًا رمزياً للعدمية. و"الترميم" هو إعادة بناء الأمل من شظايا الذات، من كُسورها، من ذاكرتها.

خاتمة: الكلمة جسدٌ للمقاومة

تقدم القصيدة نموذجًا شعريًا لمقاومة لا تقتصر على البندقية أو القرار السياسي، بل تشمل اللغة، الرمز، والذاكرة. القصيدة تُمارس فعل مقاومة من نوع آخر: مقاومة النسيان والتشظي والانكسار الداخلي، عبر بلاغة الشعر وحرارة النفس.

الرسالة الأعمق للقصيدة:

نحن لا ننتصر لأننا لا ننكسر، بل لأننا نُعادِل الانكسار بالإصرار، ونتجاوزه بالإبداع، ونحوّله إلى ذاكرة قادرة على الإنبات.

***

عماد خالد رحمة

...........................

نص القصيدة

سَمًا بِأنَّا لا نُطيقُ انْكِسَارا

ولنَرْفَعَنَّ عَلى الجِراحِ شِعارَا

فِلَسْطينُ الحَبيبَةُ سَوْفَ تَبْقَى

لَنا وَطَنًا، وَقُدْسُ اللهِ دارَا

وما زِلْنَا بِطُولِ البُعْدِ نَشْقَى

وَنَصْلَى في النَّوَى جَمْرًا وَنارَا

وَكَمْ ضَاقَتْ خُطَانَا في الظَّلالِ

وَمَدَّتْ في صُدورِ الحُلمِ ثَارَا

تَعالَتْ في زَوايَا القَهْرِ أَيْدٍ

تُشِيعُ الموتَ، تَغْرِسُ في الدِّيارَا

وَنَسْكُتُ – والضّمائرُ في اشْتِعالٍ –

كَأَنَّ الصَّوْتَ قدْ خَافَ انْكِسَارَا

سَنَمْضِي، خَلْفَها بِالْحَقِّ نَرْقَى،

وَيَوْمًا مَا سَنَغْمُرُها انْتِصَارَا

نُطَهِّرُ تُرْبَها مِنْ كُلِّ دَخْنٍ

وَنُطْفِئُ في الحِمَى وَجَعًا وَشَوْقَا

ونَسْقِي مِنْ مَدامِعِنا الدِّيارَا

فَتَزْهُو في الرُّبَى زَهْرًا وَنَوَارَا

تَسَمَّعَنا الدُّنَى غَرْبًا وَشَرْقًا،

نَرُدُّ إلَى حِكايَتِنا اعْتِبارَا

بِعَوْدَتِنا تَطِيبُ الأَرْضُ عِرْقًا،

وَتَمْسَحُ عَنْ سَماءِ البَيْتِ عَارَا

ويَحْلُو مَعْ رُجوعِ الأَهْلِ مَلْقًى

يَرُودُ الفَجْرَ، يَفْتَتِحُ النَّهَارَا

ونَصْنَعُ مِنْ صَفَائِحِهمْ جُسُورًا

وَنَسْقِي مِنْ جِرَاحِهمُ الحِوارَا

لَنَا حَقٌّ، وسَوْفَ يَعُودُ حَقًّا،

ولَوْ طَالَ الزَّمانُ بِهِ انْتِظَارَا

فَكَمْ مِنْ مُرِّ دَمْعٍ خَلْفَ ظِلٍّ

سَقَانا الذُّلَّ، فَاِتَّقَدَ انْكِسَارَا

وَلكنَّا نُرَمِّمُ مِنْ شُظايَا

رجاءَ القلبِ... لا نَرضَى انْتحَارَا

 

في المثقف اليوم