قراءات نقدية

عبد الله الفيفي: بين (المتنبِّي) و(ابن خفاجة الأندلسي)!

يبدو (أبو الطَّيِّب المتنبِّي) أحيانًا أكبر منافقٍ عرفه الشِّعر العَرَبي، وفي هذا الباب كان يكدُّ قريحته.  ولذا لم يُنتِج شِعرًا يُذكَر كما أنتج في غرض المديح. ولعلَّه لم يَصْدُق في بيتٍ منه، باستثناء بعض قصائده في (سيف الدَّولة).  هكذا زعم (ذو القُروح). فقلت:

ـ وهذه مأساة ثقافيَّة حقًّا أن يكون شاعر العَرَبيَّة الأكبر هكذا.

ـ شاعر العَرَبيَّة الأكبر؟ من تقصد (المتنبِّي)، أم (الجواهري)؟!

ـ ألقاب مملكةٍ في غير موضعها! وهذا الأخير إنَّما نُحِل هذا اللقب الفاحش في العصر الحديث، اعتباطًا!

ـ لقد ظلَّ «شاعر العَرَبيَّة الأكبر» هذا- بتلك الشخصيَّة المريضة- مفاخرًا ببطولاته في التسوُّل، بلا كرامة إنسانيَّة:

لا تَجْسُرُ الفُصَحاءُ تُنشِدُ هَاهُنا      

بَـيْـتًا، ولَكِـنِّي الهِزَبرُ الباسِلُ!

ـ ويا له من هِزَبْر باسل، في غير ميدان الهَزابر والبَسالة! 

ـ نحن عادةً لا نقرأ شِعر (المتنبِّي) بعقولنا، بل بعواطفنا، وبما لُقِّناه في مدارسنا من تصنيم شأنه وشأن شِعره، لنتولَّى ترديده لمن بَعدنا. ولا ريب أنه بارع جدًّا في لُعبة النَّظم العَروضيَّة، لكنَّه كثيرًا ما بدا منحطًّا جِدًّا بمقاييس النقد الإنساني، الثقافي والقيمي، وربما بمقاييس الجمال الفَنِّي أيضًا.

ـ كنتَ قد قلتَ: إنَّ معظم الرائع من شِعر (المتنبِّي) في مقدِّمات قصائده، أمَّا ما بعد المقدِّمات فتقليديٌّ نَظميٌّ غالبًا، مدحًا أو هجاءً أو رثاءً.

ـ بل إنَّ مقدِّمات قصائده نفسها لا تخلو من النَّظم الذِّهني البارد؛ لأنَّ نصيبه في الحُبِّ والغَزَل صِفر.  اللَّهم إلَّا حُبّ منحوتاته الشِّعريَّة، على طريقة (بيجماليون)، حسب قصيدة الشاعر الروماني (أوفيد Publius Ovidius Naso، -17م) السَّرديَّة، بعنوان «التحوُّلات Metamorphoses».  انظر، على سبيل النموذج، إلى قول (أبي الطَّيِّب):

لقَـد حـازَني وَجْـدٌ بمَـنْ حـازَهُ بُـعْدُ

فـيَا لَـيْـتَـني بُـعْدٌ ويـا لَـيـتَـهُ وَجْــدُ

أُسِـرُّ بتَجديـدِ الهَـوَى ذِكْـرَ ما مضـَى

وإنْ كـانَ لا يَـبقَى له الحَـجَرُ الصَّلـدُ

سُـهادٌ أتـانـا منكِ فـي العَـينِ عِنْدَنَـا

رُقــادٌ وقُـلَّامٌ رَعَـى سـرْبُـكُـمْ وَرْدُ

مُـمَـثَّـلَـةٌ حـتَّى كـأنْ لَـمْ تُـفـارِقـي

وحتَّى كأنَّ اليأسَ مِن وَصْلكِ الوَعدُ

فيبدأ القصيدة بأداة التحقيق (لقد)، وكأنَّ تلك قضيَّة فكريَّة شائكة، تقتضي التقرير، والتحقيق، والتأكيد، والتشديد في الإثبات! وكأنَّ المتلقِّي كان يهمُّه مثل هذا البيان التقريري عن علاقة الشاعر بصاحبته، وهو يخشى إنْ لم يحقِّق له الأمر بـ«لقد» أن يساوره الشك، لا قدَّر الله!  وعبارة (لقد) لا تَرِد إلَّا في السياقات الجدليَّة، التي تقتضي التحقيق والتأكيد، إجابةً عن سائل، أو شاكٍّ، أو ردًّا لشُبهة، أو إنكار. وهو ما لا يناسب سياق (المتنبِّي) في التغزُّل؛ فما لنا ولشؤونه العاطفيَّة، ليتصوَّر أنَّنا متطلِّبون منه ضربَ الهامات بـ(لقد)؟!

ـ وهو يوردها في أوَّل كلمةٍ من مطلع القصيدة؛ وكأنَّ تلك قضيَّة خلافيَّة بين الناس، وما قال القصيدة إلَّا ليجلِّي الحقيقة بشأنها، وأنَّه، والله، «قد حازَهُ وَجْدٌ بمَن حازَهُ بُعْدُ»! ومن يتتبَّع استعمال (لقد) في «القرآن»، يعي مواضع استعمالها السليمة. ثمَّ ما حكاية «الحيازة» هذه؟ «حازَني وَجْدٌ بمَنْ حازَهُ بُعْدُ»؟! 

ـ يقال: حازَه يَحُوزُه، إذا مَلَكَه وقَبَضَه واستبَدَّ به.(1) وهو معنى لا بأس به، لكنَّه لا يخلو من تكلُّف هاهنا.  ثمَّ انظر إليه كيف يختم بيته: «فيَا لَيْتَني بُعْدٌ ويا لَيتَهُ وَجْدُ»؟ مكرِّرًا الشَّطر الأوَّل، في ضربٍ من الطَّيِّ والنَّشْر.  وهكذا في تلاعبٍ رياضيٍّ بالألفاظ، أشبه بأعمال الحُواة بالأفاعي منه بوجدانيَّات العشَّاق، وما تقتضيه من رِقَّة التعبير والتصوير، والتعويل على نبض الرُّوح، لا على معادلات الذِّهن!  وحسبك بهذا المطلع عن تحليل سائر الأبيات، التي نُسِجت على المنوال عينه.  وشتَّان بين هذا التكلُّف وبين جَمْع شاعرٍ آخَر بين عُمق التصوير وعذوبته، وهو (ابن خفاجة الأندلسي)، في قصيدةٍ له من عشرة أبيات، تكاد من الغضارة تسكب:

سقْـيًا لِـيَومٍ قَد أَنَـخْـتُ بِـسَرحَـةٍ

رَيَّـا تُـلاعِـبُـها الشَّمالُ(2) فَتَـلعَـبُ

سَكْـرَى يُغَـنِّـيها الحَـمامُ فَـتَـنثَـني

طَـرَبًا ويَسقـيها الغَـمامُ فَـتَـشرَبُ

يَـلْـهُـو فَـتُرفَـعُ لِلـشَّبـيـبَـةِ رايَـةٌ

فيـهِ ، ويَـطلُـعُ لِلبَهـارَةِ كَـوكَـبُ

والرَّوضُ وَجهٌ أَزهَرٌ، والظِّلُّ فَرعٌ

أَسـوَدٌ ، والـمـاءُ ثَـغـرٌ أَشْـنَــبُ

في حَـيثُ أَطـرَبَـنا الحَـمامُ عَشِـيَّـةً

فَـشَدَا يُغَـنِّـيـنا الحَـمامُ الـمُطـرِبُ

واهتَزَّ عِطفُ الغُصْنِ مِن طَرَبٍ بِنا

وافْـتَـرَّ عَن ثَـغرِ الهِـلالِ المَـغـرِبُ

فـكَـأَنَّـهُ والـحُـسنُ مُـقـتَـرِنٌ بِـهِ

طَـوْقٌ عَلى بُـرْدِ الغَمامَـةِ مُـذهَـبُ

في فِتيَـةٍ تَـسْرِي فَيَنـصَدِعُ الدُّجَـى

عَنها، وتَنـزِلُ بِالجَديبِ فَـيُخصِبُ

كَـرُموا فَلا غَـيثُ السَّماحَةِ مُخلِـفٌ

يَـومًا، ولا بَـرقُ اللَّطـافَـةِ خُـلَّـبُ

مِـن كُـلِّ أَزهَـرَ لِلنَّعـيمِ بِـوَجـهِـهِ

مـاءٌ يُـرَقرِقُـهُ الشَّبـابُ فَـيَسكُـبُ!

وهي رِقَّة شِعريَّة عميقة، لا سطحيَّة تقليديَّة على غرار ما أُطلِقَ عليه سلاسل الذَّهب البُحتريَّة. أعني شِعر (البحتري)، القائل، مثلًا، في سلاسل بُحتريَّة، لا شِعريَّة ولا نثريَّة:

يَمتُـتنَ بِالقُـربَـى إِلَـيهِ وعِـندَهُ  

فِعلُ القَريبِ وهُنَّ غَيرُ قَرائِـبِ

بِطَـرائِـقٍ كَطَـرائِـقٍ وخَـلائِـقٍ  

كَخَـلائِقٍ وضَرائِـبٍ كَضرائِبِ

في تَـوبَـةٍ مِـن تـائِبٍ أَو رَهبَـةٍ  

مِن راهِبٍ أَو رَغبَـةٍ مِـن راغِبِ!

ويبدو من خلال شِعريَّة (ابن خفاجة الأندلسي، - 533هـ)- ابن (جزيرة شقْر)، بشرقيِّ الأندلس، بين (شاطبة) و(بلنسية)- الذي أخلص لحُبِّ الطبيعة، لا لأصنام الحُكَّام كغيره من الشُّعراء، أنَّه كان يسعَى سعيه لمعادلةٍ شِعريَّةٍ تجمع بين مذهب (أبي تمَّام) الشِّعري، بانزياحاته المبتدعة، ومذهب (البحتري)، بغنائيَّاته وسلاسة ديباجته.  ولذلك لم يَجِد له القدماء نظيرًا مشرقيًّا ليشبِّهوه به، ويلقِّبوه بلقبه، كما كانوا يفعلون؛ إذ يلقِّبُون أحد الشعراء الأندلسيِّين بـ(بحتري الأندلس) وآخَر بـ(متنبِّي الأندلس)؛ فظلَّ نسيج وحده.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

.............................

(1)  يُنظَر: الزَّبيدي، تاج العروس، (حوز).

(2)  يعني: ريح الشَّمال. وكثيرًا ما يخلط الناس اليوم بين (الشَّمال)، بفتح الشين، و(الشِّمال)، بكسرها. ذلك أنَّ الأُولى هي جهة الشَّمال، والأخرى تعني جهة اليَسار. وإنْ كان لهذا علاقة بذاك؛ لأنَّ العَرَب كانوا يُسمُّون ما عن يمين (الكعبة) (يَمَنًا)، وما عن يسارها شَمالًا، أو(شَامًا). وهذا يعني أنَّ القائل بهذه الجهات يولِّي وجهه قِبل المشرق. وتلك كانت قِبلة العَرَب من عَبَدَة الشمس. ومن هنا جاءت تسمية (اليَمَن)، و(الشَّام) و(الشَّمال). ومن طرائف ما يُذكَر في هذا السياق قول (ابن قتيبة، (د.ت)، أدب الكاتب، تحقيق: محمَّد الدالي، (بيروت: مؤسَّسة الرسالة)، 91) وهو يتحدَّث عن رِيح الشَّمال: «الشَّمال: وهي تأتي من ناحية الشَّام، وذلك عن يمينك إذا استقبلتَ قِبلة العِراق!» فكيف يكون الشَّام عن يمينك إذا استقبلتَ قِبلة (العِراق)؟! على القارئ أن يعرف أوَّلًا أين كان (ابن قتيبة) حينما قال هذا الكلام؛ أي حينما كانت الشَّام عن يمينه وهو مستقبلٌ العِراق. ما يعني أنه كان في نواحي (إيران) أو بلاد (فارس). وهو بالفعل يُنسَب إلى (دَيْنَوَر)، الواقعة إلى شَمال غرب بلاد فارس. وكان عليه ليفهم القارئ «أدب كاتبه» أن ينبِّهه إلى المكان الذي يتحدَّث منه، حينما أراد تحديد هذه الجهات بناءً على موقعه! وإنْ كانت بوصلة (ابن قتيبة) الجغرافيَّة تبدو بعدئذٍ آيةً في الاضطراب؛ بدليل أنه بعد صفحةٍ من جعله الشَّام عن يمينه، قال عن (نجم سُهَيل): «من الكواكب اليمانيَّة، ومطلعه عن يسار مستقبل قِبلة العِراق!» وهنا يكون ابن قتيبة قد قفز بالضرورة إلى شرق بلاد فارس؛ كي يُمسي (سُهَيل اليماني) عن يَساره وهو مستقبلٌ العِراق! إلَّا لو قيل: إنَّه في المرَّة الأُولى كان يستقبل من (دَيْنَوَر) قِبلة جَنوب العِراق، ليُصبح الشَّام عن يمينه، وفي المرَّة الأخرى يستقبل قِبلة شَمال العِراق، ليُصبح سُهَيل عن يساره!

في المثقف اليوم